لو لم يكن الشعرُ مغامرةً لما تجرَّأ السيّاب حين أقدم على كتابة قصيدته (هل كان حبّاً)- إذا سلّمنا بكونها أول قصيدة تكتب في الشعر الحر- ولو حدثنا بدرٌ عن لحظة مغامرته تلك لكنا وقفنا على أسئلة كبيرة، تكشف لنا قدرته على تخطي الثابت والبحث عن المتحول فيه، وتلك لحظات مفصلية وتاريخية كما نرى. وكما هي محاولات التحديث في الشعر والفنون بعامة. وما الفن إن لم يكن تخريب بنيةٍ قائمة ببنيةٍ جديدة تقوم؟، ما التحول إن لم يأتِ بزعزعة كبيرة؟ لكننا، في أدبنا العربي، وعبر تاريخه الطويل، كنّا الاقل تجريباً، والأبقى على القديم، فثوابتنا مقدسة، عميقة وراسخة، ترفض معاول التحديث، وتأبي إلا أن تكون نقيةً. وهذا متأتٍ من متلازمة اللغة والدين، فاللغة العربية عندنا مقدسة كما الدين، هذا العقد الاسطوري، الذي ظل قائماً الى يومنا هذا، بعيداً عن التصدع والاجتهاد. وفي حساب الزمن، فإنَّ ثلاثة أرباع القرن تفصل بين قصيدة لوتريامون (1846- 1867) أوّل (قصيدة نثر) في الشعر الفرنسي، التي هدّت الشكل والوزن بالكامل، وقصيدة السياب (1926- 1964) أوّل (قصيدة تفعيلة) في الشعر العربي، التي (هزّت) الشكل وحافظت على الوزن. بما يدلل على خشيتنا من المغامرة، وبطء خطوات التحديث لدينا، ويمكننا قراءة ذلك في الرواية والرسم والفنون الاخرى، فضلاً عن تفاصيل الحياة بعامة. والغريب أنَّ قصيدة التفعيلة ما زالت تلاقي قبولا خجولاً وموقفا نقدياً متردداً في اوساطنا الثقافية، الى اليوم، كما يحصل في بعض المحافل والمؤسسات الاكاديمية، وما نراه في مهرجانات الشعر من سيادة للشكل القديم إلا الصورة الأوضح في كوننا أمة متمسكة بقديمها، غير منصرفة عنه. قبل أكثر من نصف قرن غامر العظيم طه حسين فقال بكذبة الشعر الجاهلي، لكنَّ غالبية مؤسساتنا ما زالت تكفّره وتتصدى له. ويمضي فيليب جاكوتيه (1925-2021) عشرين سنة في سويسرا، حيث ولد، ثم يهجرها الى فرنسا، لأنها بلاد لم تحقق له أن يكون أوروبيا، ويشعر بحساسية تجاه الفلسفة، فيجبر نفسه على قراءة هولديرن، يتلقى تربية بروتستانتية، لأنه قرأ العهد القديم، أكثر مما فعله زملاؤه الكاثوليك. ويقول عن البروتستانتية بأنها ثوّرت الخجل السخيف، الذي كان يشعر به في فرنسا الكاثوليكية. وعن بلاده الأم سويسرا يقول
: «حتى وإن كنا مقيمين، وملازمين البيت، فنحن في واقع الأمر لسنا سوى رُحّل، قد أُعِيْرَ
العالمُ لنا.
يا لها من جملة (لقد أُعِيْرَ العالم لنا) كلُّ إخلاص لاِنتماء قيدٌ.
في شرقنا العربي لا يحق لأحدٍ المجاهرة في تخلّصه من قيده، أيّ قيد، وما أكثرها. قليلون، هم أولئك الذين تمرّدوا على اللغة والشكل والثابت والأثر، وهذه نتيجة طبيعية لبقائهم أسرى لصحة المعتقد والطائفة والقبيلة، لكم كانت قيوداً؟ نحن مكبَّلون بولاءات وانتماءات لا معنى لها، هل قدّمنا أنموذجاً ثقافياً تجاوز حدود شرقنا، هل أثّرنا بثقافات العالم كما أثّرت فينا؟، أعتقد لا. يقول جاكوتيه: «لا يمكن الاكتفاء بالضوء، بل، عليَّ أنْ أفهم».