في هذه الأيام، نشهد ما يسميه المنهزمون من المعسكر الإيراني انسداداً سياسياً وما يسميه المنتصرون خطوات لبناء سلطة الأغلبية، وتبدو الحاجة ملحّة إلى تحديد الموقف وتحديد الخطوات المطلوب تعميقها لتتحول إلى خطوات إنقاذ للوضع العراقي، بجميع توصيفاته، من التردي والانهيار.
ليس صعباً إطلاق أحكام سياسية ذات دوافع مبدئية تجاه ظلم واستبداد أحزاب الفساد وميليشياتها التي استفردت بحكم العراق. ولكن، في ظل الظروف السياسية الحالية، بما تحمله من احتمالات تراجع وانهيار القوى السياسية المتطرّفة الأكثر إيذاء بسبب تداعيات ثورة أكتوبر 2019 التي عززتها نتائج الانتخابات الأخيرة، يظل إطلاق الأوصاف المُستحقة على من تبوأوا واجهات الحكم شيئا، والبحث عن سبل وطنية لإنقاذ البلد مما هو عليه شيئا آخر.
لو جُمعتْ كل مفردات رثاء حال الشعب العراقي ووسم الفاسدين والعملاء بأرذل الأوصاف في مقالات وتحليلات صحافية، لما ارتقت إلى الحد الأدنى من متطلبات وقف التداعي والتدهور المتواصل، وذلك لسبب مباشر وبسيط هو أن قوى الاستبداد الحاكمة التي تواجه حالة غير مسبوقة من التقهقر والتي امتلكت وتراكمت لديها إمكانات لوجستية هائلة بفضل رعاية وتعليمات أولياء أمرها في طهران، لا يهمها أن تُغرق العراق بالدم إذا ما وجدت نفسها محشورة في زوايا الهزيمة، وهذا يتطلب ردّا سياسياً بمستوى الحالة لا يمكن حصره في توصيفات يستحقونها.
◙ دون مواقف مُطلقة مُسبقة، أو دوافع عاطفية أو مبالغة، رغم أصالتها الوطنية المبدئية، العراق اليوم يمرّ بلحظة تاريخية ومفصل سياسي مهم
مفردات وحقائق مرّة تأخذ طريقها هذه الأيام للنشر على وسائل التواصل الاجتماعي أو بعض الفضائيات، وذلك لمستوى الفساد الذي وصلت إليه منظومات السلطة التنفيذية، وانهيار قيمها التقليدية، وتغلغل وتحكّم الميليشيات فيها، إلى جانب تحكم لا أخلاقي بمصادر عيش الناس، خصوصاً في المحافظات الغربية، أوصلت الناس إلى حالة يأس من إمكانية إصلاح الأوضاع سواء بواسطة منقذ أو منقذين، إلا إذا هبطت على العراقيين معجزة من السماء. وهذه لا تحصل في عالم السياسة.
لا بدّ من الدقة في التوصيف السياسي لقوى الحكم الطائفية الحالية التي زرعها المحتل الأميركي في العراق، وذلك بمراجعة التجربة الأميركية الفاشلة لصناعة الهياكل الديمقراطية في أميركا اللاتينية التي وفّرت الفرص ودعّمت منظومات الفساد السياسية ومافياتها لنهب المال العام، ولو بصورة أقل مما يحصل اليوم في العراق.
كان هدف الأميركيين في ذلك الوقت مناكفة الاتحاد السوفييتي وتحطيم القوى الوطنية المحلية في عموم بلدانها، كما حصل في فنزويلا وبيرو وشيلي وكولومبيا وغيرها.
أتذكر قصة مثالها ليس بعيداً عن العراق، حينما كنت سفيراً لبلادي في فنزويلا قابلت الضابط العسكري الشاب هوغو شافيز في مقر السفارة، جاء طالباً قبول تطوّع المئات من الفنزويليين إلى جانب شعب العراق لمواجهة الحلف الأميركي وحرب عاصفة الصحراء عام 1991. كان شافيز حينها قائداً لمجموعة وطنية صغيرة من الشباب، يناضلون من أجل تخليص بلدهم من هيمنة نظام أحزاب الفساد في ظل ديمقراطية شبيهة بما صنعته الولايات المتحدة في العراق التي أضيفت إليها وظيفة ديمقراطية القتل.
وجد شافيز أنه لا سبيل لهزيمة تلك الأحزاب إلا عن طريق الانقلاب العسكري الذي نفذه مع مجموعة من الضباط عام 1992، وفشل بسبب تدخل القوات الأميركية المرابطة بقاعدة قرب كاراكاس. بعد سنتين من السجن تم إطلاق سراحه من قبل الرئيس المؤقت رفائيل كالديرا. لو حصل مثل هذا الأمر ببغداد لتم إعدام المنفذ فوراً، أو سحله بالشوارع، على طريقة العراقيين في سحل الراحل نوري السعيد عام 1958.
اختار شافيز خوض طريق المنافسة الديمقراطية الانتخابية فهزم حزبين كبيرين هيمنا على الحياة السياسية أربعين عاماً؛ الحزب الديمقراطي المسيحي وحزب العمل، ليصبح رئيساً لفنزويلا عام 1998، وبقية القصة معروفة.تبدو الحاجة ملحّة إلى تحديد الموقف وتحديد الخطوات المطلوب تعميقها لتتحول إلى خطوات إنقاذ للوضع العراقي
هذا المثال الواقعي لفنزويلا كبلد شبيه بالعراق، من حيث السكان والثروة، والذي رهنت ثروته النفطية لمافيات الفساد ليس متطابقاً مئة في المئة مع خصوصية الحالة العراقية، لكنه يتشابه معها في مفصل أن العقوبة الشعبية هزمت الفاسدين بالانتخابات، رغم تحفظاتنا الكثيرة على نظام شافيز لوقوعه في شراك خدعة النظام الإيراني وفسحه المجال لشبكات المخدرات لحزب الله. لتتم بعد ذلك محاصرته من قبل واشنطن وتجويع الشعب الفنزويلي انتقاما لهزيمة عملائها، بينما استمر تدفق النفط الفنزويلي إلى الولايات المتحدة.
ليس من السهل أن تعترف الأحزاب وأدواتها في العراق بالهزيمة، حتى وإن كانت تطبيقاً للدستور الذي شاركت في كتابته برعاية بول بريمر. هذا ما يحصل هذه الأيام؛ مروجو الطائفية يحذرون من عدم إشراك كل السياسيين الشيعة بالسلطة ومن بينهم المهزومون في الانتخابات، لأن عدم إشراكهم، حسب ادعائهم، إضعاف للأغلبية الشيعية يحولها إلى أقلية في البرلمان مقابل السنة والأكراد. وهي كذبة لا يمكن تمريرها على أبناء الشيعة الذين ثاروا على هذه الطبقة المتورطة بالقتل والفساد.
الواقع الصعب يتطلب خيارات سياسية صعبة تؤدي إلى فتح مسار سياسي وطني جديد إذا صمد مقتدى الصدر على مواقفه ولم يخذل الشعب بعد الالتفاف على مشروعه المعلن بالتعامل وفق نظرية درء المخاطر وتكسير قوى أعداء الشعب على مراحل، وليس على الطريقة الهزيلة التي استخدمتها بعض الشخصيات العربية السنية عامي 2005 و2006 للدخول في العملية السياسية بشعار حماية العرب السنة، لكنها تحوّلت إلى مشروع للحصول على مصالح ذاتية تدفع ذكريات الجوع القديم وغياب الجاه، ثم وقوع هذا المكون الرئيسي تحت هذا الغطاء السياسي ضحية للقتل والتدمير عام 2006 وما بعده.
السؤال الواقعي الذي يرد على تعميمات وصفية لا تستند إلى رؤية سياسية حكيمة بل متخوّفة من احتمال عدم صمود مشروع مقتدى الصدر في إدارة السلطة تتهمه بأنه لن يخرج عن إرادة طهران هو: ألم يَقُدْ الصدر فصيلاً قتالياً ضد الاحتلال إلى جانب المقاومين من العرب السنة، منذ الساعة الأولى للاحتلال، متفرّداَ عن غيره من القوى الشيعية المتورطة في العمالة الأجنبية الإيرانية والأميركية؟ بشهادة الأميركي بول بريمر، الذي وضع اسم الصدر دون غيره من السياسيين الشيعة المتعاونين معه على لافتة سوداء في مكتبه وفق مذكراته.
صحيح أنه شارك في تقاسم السلطة بعد تقنينها، وفق ما سمي بالعرف السياسي سلطة الشيعة، وهي ليست كذلك، فأبناء الشيعة قدموا الدماء في معارضتها، لكنه وضع مسافة بينه وبين الآخرين في الاستسلام لتوجيهات قاسم سليماني ومن بعده إسماعيل قاآني.
صحيح أيضاً ما ذكر عن قصص تورط عدد غير قليل من أتباع له تبوأوا مراكز قيادية في حكومات الفساد، وآخرين تورطوا في قتل الأبرياء من العرب السنة، وقد اعترف الصدر أكثر من مرة بذلك.
لكن، وللظروف الصعبة التي يمر بها العراق، لا بد من الاعتراف وعكس بعض المبادئ الاجتماعية عن العمل السياسي، وليس من أجل تبرير موقف داعم لخيارات الصدر الحالية، أن العميل والفاسد والقاتل ليست صفات مطلقة مُسجلة في بطاقته الشخصية التعريفية مهما وصل في مراتبه السياسية والحكومية العليا. الوطنية والعمالة والخيانة مواقف يُدْفَعُ إليها الشخص في ظروف خاصة لا يمكن أن تلغى من ميدان التقييم العام والحساب على الأفعال، فلكل جريمة عقاب، ولكن قد تدفع الظروف المستجدة والضغوط الجديدة إلى تبني المواقف الأصيلة والصحيحة.
ليس من المناسب التسليم بمقولة أن معركة الصدر الحالية مع القوى الولائية لعبة سياسية مؤقتة ستعود قريبا إلى حالتها القديمة لذلك لا يجوز دعم خطواته. وأن على الشعب والقوى الوطنية الشريفة تركه وحيداً يستسلم لمشيئة طهران في الأيام المقبلة.
نعتقد أن الظرف السياسي يتطلب رؤى حكيمة من قبل معارضي العملية السياسية ومن صاحب القرار النهائي وهو الشعب، فهي تخدم في النهاية معركته ضد الفاسدين والولائيين. الصدر ومواقفه اليوم وخياراته تتعلق بمصير البلد، ولا شك أنه ينظر إلى ما حوله ولا يحتاج إلى مواقف يخسر من خلالها حلفاء من بيته الشيعي إلا إذا كانت لصالح الشعب العراقي وليست لصالح الطائفة الشيعية وحدها.
دون مواقف مُطلقة مُسبقة، أو دوافع عاطفية أو مبالغة، رغم أصالتها الوطنية المبدئية، العراق اليوم يمرّ بلحظة تاريخية ومفصل سياسي مهم يعتمد مرحلياً بالدرجة الأولى على صلابة مواقف الصدر شخصياً، وعلى قدرته على تنفيذ المشروع الذي أعلن عنه. هذا لا يعني إلغاء مواقف ونشاط ونضال من يبحثون عن الحل الجذري لإنهاء النظام القائم. ووفق خطابات بعضهم علينا ترحيل مهمة الخلاص من الوضع الراهن إلى الأجيال العراقية المقبلة، فالكلام وحده لا يصنع ثورة ناجحة.
الخيار اليوم بيد مقتدى الصدر، إما أن ينحاز إلى الشعب في أخطر مرحلة يمّر بها ويواجه الفاسدين الذين أهانوا العراقيين وقد أعلن التزامه بذلك بمواقفه المعلنة قبيل وبعد الانتخابات ولحد كتابة هذه السطور، ويتحول بذلك إلى قائد شعبي يلتف حوله كل العراقيين، أو يختار طريق المهادنة والتراضي وإعادة صفقات التوزيع الطائفي والإتيان برئيس وزراء يتقن فن المهادنة، لكي يستمر في السلطة. في تلك الحالة ستظل القيادات السنيّة والكردية معه لأن مصالحها لن تتضرر في جميع الحالات، لكن شعب العراق سيكون له خيار آخر محرج للصدر نفسه وهو لا يقبله وقد يقوده إلى اعتزال العمل السياسي.