لا أعجب إلا من كتاب ومحللين ومعلقين عراقيين وعرب يستغربون الصراعات الطائفية والعنصرية الجارية في العراق، هذه الأيام، بين ثلاثي التيار الصدري الحلبوسي البرزاني وبين جماعة إيران.
والأكثر غرابة أن بعضهم يتنبأ بنهاية قريبة لهذا الصراع، ويتوقع عودة العراق إلى حياته الطبيعية الآمنة الضاحكة السابقة، ويعتقد بأن أي واحد من هؤلاء زعيم بحق جاءته الزعامة تجري إليه بفعل مواهبه وكفاءته وخبرته ووطنيته وحسن سلوكه ورجولته التي ترفض التبعية لأي أحد خارج الحدود، لأي سبب، ولأية حجة أو ذريعة.
ولكي نرفض جميع تحليلات هؤلاء المحللين والمعقبين والمفسرين ينبغي أن نعود إلى سلوك قادة الكتل المتصارعة اليوم، واحدا واحدا، ونغوض في سلوكه وارتباطاته منذ أيام المعارضة العراقية السابقة، لنعرف أن صراع اليوم هو نتيجة حتمية لصراع الأمس الذي كان يجري في مؤتمراتهم تلك بكل ما فيه من بشاعة وهمجية وطائفية وعنصرية، وأحيانا شوارعية، وهم فقراء ومعوزون، وكان لابد أن تنتعش وتكبر وتترعرع حين يكونون في السلطة بما اكتنزوه من أموال وسلاح.
زاملتُ ورافقتُ أغلب قادة المعارضة العراقية السابقة التي يحكم بعض أفرادها العراقَ اليتيمَ اليوم، رغم أنني لم أحضر أيا من اجتماعتهم ومؤتمراتهم، وكنت مدعوا لحضورها.
ومن خلال هذه الرفقة تمكنتُ من الحكم عليهم، منذئذٍ، بأنهم، في غالبيتهم، سطحيون، انتهازيون، لا يحلم أكبرهم بغير الغد المنتظر الذي تعينه فيه أمريكا على وطنه وأهله، حتى لو حوَّلت الدولة إلى تراب، والمجتمع إلى زمر متناحرة متعاركة لا تأتلف ولا يأمن بعضُها لبعض. المهم عندهم المناصب والمكاسب والرواتب، أما الوطن وأما أهله فكلام وكلام فقط ليس له من الصدق والأمانة نصيب.
وأتذكر هنا ما كتبه الراحل الساخر زهير الدجيلي عن حكومة ما بعد سقوط نظام صدام حسين وعودة هؤلاء المعارضين إلى أرض الوطن. فقد وزع وزارات العراق على قادة المعارضة البارزين. ثم حين وجد أن عدد تلك الوزارات لا يكفي لإرضائهم جميعا تدارك الأمر واستحدث وزارة لكوكا كولا، وأخرى لقواطي البيرة، وثالثة لجمع القمامة، ورابعة لإدارة شؤون المقاهي، وخامسة للملاهي.
لم يكن أحد من العراقيين المغتربين يحترم تلك المعارضة ويحسن الظن بقادتها إلا إذا كان حالما معهم بتعويضه عن سنوات العيش على هبات إدارات الدعم الاجتماعي البريطانية والفرنسية والهولندية والسويدية والأمريكية، والوقوف طوابير طويلة أمام شبابيك دوائر الرعاية الإنسانية لقبض المقدر والمقسوم.
ولم يكن مسموحا لعراقي مستقل وصاحب خبرة ووطنية ورجولة واستقامة وحسن سلوك بدخول نواديهم والانضمام إلى صفوفهم. بل كانوا يتآمرون ويتعاونون على استبعاد أي معارض ليس وراءه مخابرات أمريكية أو إيرانية أو سورية أو بريطانية تجبرهم على قبوله بينهم، على مضض.
وحين نعود اليوم إلى وثائق مؤتمرات تلك المعارضة سنضع أصابعنا العشرة على واقعها المر، وعلى ما كان يجري فيها من مناقشات ومناكفات ومعاكسات ومؤامرات ودسائس وحروب تسقيط وتشويه سمعة لا تنتهي.
كان لها قادة كبار ستة، أما ما عداهم فأتباع ومنتفعون ينتظرون صدور الأوامر من الغرف العليا المغلقة في فنادق الخمس نجوم التي لا يدخلها داخلٌ إلا بإذن.
لم يكن الواحد منهم يستطيع البقاء داخل نادي الكبار إلا المحنك المتمرس في تدبير الدسائس على رفاقه، وإلا الموهوب بكتابة التقارير الملفقة عن جيش العراق وسلاحه وأسراره العسكرية لبيعها لهذه الحكومة الأجنبية أو تلك.
ومن يشك في هذا الكلام عليه أن يتذكر تحركاتهم وقراراتهم، من أول يوم دخلوا فيه العراق، بعد دخول الجيوش الأمريكية إلى قلب عاصمة الرشيد، وقيام نظام ديمقراطية الفوضى وغياب سلطة القانون.
فمن أول يوم وأول ساعة سابقَ بعضُهم بعضا إلى احتلال قصور الدولة ومبانيها ومنازل أولاد صدام حسين وأقاربه ووزرائه ومعاونيه، وما زالوا مقيمين فيها دون خوف ولا حياء.
بعضهم سارع إلى البنك المركزي وسطى على ما خف حمله وغلا ثمنه من أمواله المكدسة. وبعض سرق دبابات الجيش وأسلحته وهرَّبها إلى خارج الحدود. ورابع تسلل إلى مصافي النفط ومراكز توليد الكهرباء ومحطات توزيع المياه ومذاخر الدواء فنهبها وباعها لتركيا أو لإيران، على مسمع القوات الأمريكية ومرآها، دون أن تهش أو تنش.
صحيح أن كتلا أو شخصيات شيعية أو سنية أو كردية جديدة دخلت الساحة برضى الكيانات القديمة، ولكن فقط لأنها من نفس الطينة، وبنفس الأساليب، ونفس سوء السلوك.المهم أن ما حدث في التاسع من نيسان/ أبريل 2003 كان صفقة مصالح بين دولة كبرى وبين دول عربية وإقليمية حكمت مصالحها بتدمير الدولة العراقية، بمعاونة شلة من نوعين من العراقيين.
الأول كان مندفعا بغيرة وطنية صادقة يريد خلاص الوطن من فردية صدام وحسين ومزاجيته المدمرة، فاعتقد بأن حالة اليأس من إمكان صلاح النظام الديكتاتوري تبيح له الموافقة على الاحتلال الخارجي للوطن، متذرعا بحجة أن الاحتلال راحل عن الوطن، مهما طال الزمن، وبعد رحيله سيكون لكل حادث حديث.
أما الثاني فهم أعضاء شلة المهووسين بالسلطة والثروة والجاه، حتى لو كان ثمنَ الحصول عليها خيانةُ الوطن وبيعُه لمن يُعينهم على اغتصاب السلطة والتفرد بها، متخذين من مظلومية طائفية أو عنصرية أغطية يسترون بها تلك الخيانة المبطنة.
ومع اتساع حملات الشجب والاعتراض لمؤتمر فينا 1992 ومؤتمر نيويورك 1999، كان على قادة المعارضة الكبار السبعة، (مسعود البرزاني، جلال الطالباني، عبد العزيز الحكيم، أحمد الجلبي، أياد علاوي، الشريف علي بن الحسين (خرج منهم بعد ذلك، وحل محله عز الدين سليم رئيس كوادر حزب الدعوة) أن يخترعوا مسرحية مؤتمر لندن 2002، لوضع الصيغة النهائية للحكم المقبل في العراق، ومنع وقوعه بأيدي مستقلين ديمقراطيين وطنيين يرفضون المحاصصة الطائفية والعنصرية، وينادون بتشكيل حكومة طواريء مؤقتة تتسلم السلطة بعد سقوط نظام صدام حسين، لفترة محددة، مهمتها تهيأة الأجواء الملائمة للقيام بتعداد سكاني عادل، ولإجراء انتخبات نزيهة نزيهة ومباشرة، وبإشراف دولي فاعل لمنع تلاعب القادة الكبار السبعة، تتمخض عن سلطة وطنية لا تُقسّم الشعب العراقي إلى سني وشيعي وكردي، بل على أساس الهوية الوطنية لتجنيب الوطن مزالق الحروب الأهلية المدمرة التي قد يُشعلها طمع الستة الكبار.والخلاصة هي أن من يعتقد بقرب انتهاء الصراع الحالي بين جهابذة المحاصصة في يوم، في شهر، في سنة، فهو واهم، وعليه أن ينتظر حتى مطلع الفجرِ، مع الأسف الشديد.