آخر تحديث:
بقلم : علي الصراف
تراجعَ مقتدى الصدر عن كل ما وعد به. وتنازل عن كل شعاراته، ليؤمّن على فرصته في إدارة السلطة في العراق. لا داعي لتكرار ذكر تلك الوعود والشعارات. فقد كشف الصدر نفسه أنها كانت شعارات للاستهلاك المؤقت.
وكان الرجل قد سبق وأن تخلى عن وعوده عدة مرات، حتى أصحبت الثقة بما يقول أصعب من الثقة بمواعيد عرقوب، وهو رجل ظل يعد أخاه بالتمر ويخلف وعده، حتى قال فيه الشاعر:
وعدتَ وكان الخلفُ منك سجيةً
مواعيدَ عرقوبٍ أخاه بيثرب
والرجل يعيش في النجف. ولأهل النجف مَثلٌ في الذين “يبيعون حلاوة بجدر مزروف”.
وقدر حلاوة السيد مقتدى كبير جدا، إلى درجة أنه “لا شرقية ولا غربية”، ولكنه مثقوب.
وهناك سبب جوهري لذلك، عادة ما لا يُلتفت إليه. وهو خليق به. وهو أنه على ثقافة محدودة. وهذه لا تُعطي وعدا إلا وتخلفه.
لم أكن أملك أكثر من هذا المعيار عندما راهنت صديقا وزميلا ذات يوم، هو كرم نعمة، بأن الصدر سوف يعود ليتحالف مع نوري المالكي. فقال لي “مستحيل”. ومعرفتي بالشؤون العراقية، قياسا بمعرفة كرم، لا تساوي معرفة شخص هندي. إلاّ أني وضعت رهاني على أن رجلا محدود الثقافة لا يمكنه أن يثبت على قول. والمرء لا ينضح في السياسة أكثر مما ينضح عندما يتكلم. ولقد فزتُ بالرهان، بلا فخر.
بما أن عائدات النفط صارت تكفي لكل الفاسدين، فإن تقاسم الحصص أصبح سهلا. وصار بوسع كل “سيّد” أن يضمن حصته من “الخمس” من دون كثير عناء
ولكنني خسرتُ أيضا بعض أمنيات كانت من قبيل “لعل وعسى”. فالذين لم يثقوا به منذ البداية كانوا أعرف به. فرجل يسمح لميليشياته أن تشارك في قتل المتظاهرين، ما كانت تجدر الثقة به من الأساس، لأنه في النهاية صاحب حصة في المجزرة التي راح ضحيتها المئات وجرح بسببها عشرات الآلاف من شباب العراق الذين طالبوا بالتغيير وإبعاد النفوذ الإيراني عن العراق، وطرد ميليشياتها من السلطة.
وبرغم أن الصدر ظل يقول إنه يرفض المحاصصة، فالمحاصصة بينه وبين عملاء إيران هي ما سيكون. وبرغم أنه وضع مكافحة الفساد نصب كل مناسبة للحديث عن الحكومة المقبلة، فإنها ستكون واحدة من أفسد ما عرف العراق من حكومات الفساد والتبعية لإيران.
المستوى الفكري والثقافي المحدود يجعل مشاغل صاحبه محدودة حتما، ودفاعاته عن مواقفه هزيلة. وتلك هي طبيعة الأمور.
لا تستطيع أن تنتظر من مقتدى الصدر أن يكون غير نفسه. تستطيع أن تتمنّى وترجو تحت ضغط الرغبة بأن تجد البلاد مخرجا مما هي فيه، إلا أن تمنياتك ورجاءاتك سرعان ما تنطفئ، لأنها قامت على أساس هش.
والرجل قد يملك على المالكي الكثير من المآخذ، إلا أنه أكثر من كل المآخذ الجديرة بالاعتبار، يحقد عليه حقدا ذا طبع شخصي، لا علاقة له بالقضايا الوطنية الكبرى. فبإشارة من إصبعه ظل يمكن أن يزج بميليشياته في أعمال القتل ضد متظاهرين وطنيين، إلا أنه لم يزج بميليشياته لكي تقاتل الميليشيات التي يقودها المالكي في “الإطار التنسيقي”، برغم أنها فعلت الأفاعيل ضده، وكادت تغتال رئيس الحكومة وظلت تهدده بالطرد حتى فازت بما أرادت.
التخلي عن مصطفى الكاظمي كان بحد ذاته ضربا متوقعا ممن وضعوا رهان التقديرات على سابق العهد بوعوده.
وثمة معضلة متأصلة في بيئة بيوتات الدين والسياسة الشيعية في العراق. هي أن معظم المراجع الدينية هي مراجع هزيلة، يتبعهم مَنْ هم على مستوى أدنى. فلا تعجب أبدا أن نسبة الأمية ترتفع في العراق حتى لتبلغ نحو نصف عدد السكان، لأن مراجعهم هي لا أكثر من مراجع جهل وانحطاط ديني وأخلاقي.
سوى أن الكاظمي هو الذي صنع الفوز “للتيار الصدري”. هو الذي أوحى بالحاجة إلى التغيير، وأن العراق يمكن أن يعود ليكون بلدا مستقلا. وأن الفساد أنهك كل شيء في العراق. فلما تحققت لهذا التيار القدرة على أن يخدع عددا أكبر من الناخبين، تم الغدر بالكاظمي، كما غُدر بما بدا أنه “مشروع” لإخراج العراق من دائرة الشر التي أوقعته بها الميليشيات الإيرانية.
طبعا، كان الفوز بمنصب رئيس الوزراء، شيئا يستحق المغامرة. إلا أن وضع الثقة بميليشيات للحد من نفوذ الميليشيات كان كمثل “النفخ في قربة مقطوعة”. فخرج الكاظمي من تمنياته مهزوما.
تستطيع أن ترى أن الكاظمي الذي اشتغل لبعض الوقت صحافيا، كان يضطر أن يقرأ كل يوم أفكارا وسياسات، وأصبح بوسع لغته أن ترقى على كل مَنْ يحيط به من قادة اللطميات الميليشياوية. ولا بد أن شعورا من الخزي كان يضغط عليه، كلما وجد نفسه يتحدث مع أحدهم، فلا يعرف كيف يتعاطى مع ضحالته، أو كيف يتعامل مع أسبابه.
عقدان كاملان من سنوات الحرب والحصار دفعت بلدا، كان يحتل أعلى المراتب في نسب التعليم في العالم، إلى مستنقعات الفقر والجوع