يعرف مقتدى الصدر أنه غير جدير بالثقة. يبدو أنه لاحظ ذلك، عندما خاطب كتل المستقلين في البرلمان بالقول “إن كنتم لا تثقون بي أو بالكتلة الصدرية فإننا سنعطي لكم مساحة لإدارة البلد، إن وحدتم صفوفكم وابتعدتم عن المغريات والتهديدات”.والأمثلة أكثر من أن تعد على تنصل الصدر من وعوده، بل واستعداده للغدر بمن لم يغدر به. آخرهم مصطفى الكاظمي نفسه، الذي إذا أراد الصدر أن يشكر أحدا على ما حققته كتلته من عدد مقاعد، فلن يجد أولى منه. ولكنه بين مساومة وأخرى مع تياره الشيعي، انتهى إلى التضحية به.
عاد الصدر، بعد فشل مناوراته مع “الإطار التنسيقي”، إلى شعار “حكومة أغلبية وطنية”، الذي كان مستعدا لذبحه قربانا لتوحيد “البيت الشيعي”. وهو بيت لا علاقة له، لا من قريب ولا من بعيد، بالوطنية. فهو بيت معروف، للقاصي والداني، بأنه وكر لعملاء لإيران، وخدم لمصالحها على حساب مصالح العراق، وقادته ظلوا يمنحونها عقودا مزيفة، من أجل تسريب الأموال إلى حرسها الثوري، حتى دفعوا البلاد إلى حافة الإفلاس. وأضاعوا لصالحها ليس مليارا أو عشرة أو عشرين، بل مئات المليارات من الدولارات. وبمقدار ما يتعلق الأمر بالفساد، فإن بيت بغاء أشرف منه.
حرصُ الصدر على توحيد “البيت الشيعي” كان وما يزال تعبيرا عن رغبته هو بالبقاء فيه والتمتع بملذاته.وعندما سُئلت الثقةُ عما إذا كانت تستطيع الثقة به، تقيأت. وقالت إن الوطنية هي آخر ما يفكر فيه هذا الـ…، ولم تكمل الجملة بعد أن أغمي عليها.لا توجد قيم وطنية داخل لعبة تكوين الكتل وتحالفاتها. ولكن توجد حصص، يجري السعي لتقاسمها بهذه الطريقة أو تلك، فتُعقد المساومات على أساسهاويمتلك الوطنيون العراقيون، من المستقلين، أحد خيارين في التعامل معه.
الأول، أن يرفضوا التعاون معه ليتركوه يرفل بنعيم “البيت الشيعي” وفساده وأشياء أخرى. وهم يعرفون في النهاية أن آل هذا البيت سوف يكرّرون ما فعلوه على امتداد العقدين الماضيين. وقد يحاولون تجميله كما تحاول البغيّ ممارسة الشرف مرة بالأسبوع. إلا أنهم لن يتخلوا عما هو جوهري: الولاء لصاحب الولاء، على حساب مصالح 40 مليون عراقي وحياتهم ومستقبلهم.
والثاني، هو أن يتعاقدوا معه على شروط، لا تأخذ بالثقة كمعيار. والشروط إنما يتعين أن تتعلق بضوابط وطنية في عمل الوزارات، بالمحاسبة والمسؤولية ومراقبة العقود.المشكلة التي تواجه هذين الخيارين، هي أن الوطنيين والمستقلين وأصحاب المقعد الواحد وإن كانوا هم الكتلة الأكبر في البرلمان، إلا أنهم ممزقون ولا يملكون بأنفسهم الثقة بأنهم قادرون على تحقيق التغيير أو فرضه أو مراقبة الحكومة ومحاسبتها على ما تفعل وما لا تفعل.
والحال، فإن عددا ربما كان ملموسا منهم قابل للبيع والشراء أصلا. حتى أن بعضهم مُباع سلفا لصالح هذه الجماعة أو تلك. سوى أنه تقدم إلى الانتخابات “مستقلا” وهو غير ذلك.بيئة الفساد في العراق أفسدت النفوس، في الواقع، أكثر مما أفسدت في المال والولاء للأجنبي، وجعلت معايير المصالح الشخصية تعلو على القيم الوطنية، التي لم تعد بضاعة صالحة للتداول، وانتهت إلى شعارات يستخدمها أهل الفساد وبيوتاته كنوع من التظاهر بالشرف مرة بالأسبوع.
هناك قلة وطنية محدودة، تمثلها كتلتا المعارضة الكردية والمعارضة التشرينية، وبعض أفراد، ليبلغ مجموعهم الكلي نحو 50 نائبا من إجمالي 329 مقعدا. وهذه يمكن أن تعمل كقوة موحدة. إلا أنها أينما التفتت لم تجد من يستحق الثقة به، فتمسكت بخيار البقاء في صفوف المعارضة. لاسيما وأنها لو تقدمت كقوة صانعة للقرار، فإن بيت الفساد الشيعي سوف يتوحد ضدها من دون تردد وينسى كل خلافاته وصراعاته. ولسوف تجد الصدر يرتمي في حضن نوري المالكي، كما يرتمي هذا الأخير في حضن الصدر، وكأن دعاوى العار والشنار لم تدخل البيت أصلا.
الصدر وأقرانه في “البيت الشيعي” جاؤوا إلى السلطة مما فاح من “عبق” التفسخ السياسي والاجتماعي والانحطاط الثقافي في العراق
ما لا يحسن نسيانه هو أن ثلثي الناخبين العراقيين لم يثقوا بالبرلمان ولا بالانتخابات نفسها فقاطعوها. وكل ما تراه من كتل وأحزاب داخل البرلمان، هو ثمرة أقل من 40 في المئة من مجموع الناخبين. وكان من اللافت أن بغداد والبصرة والسليمانية سجلت أعلى نسب المقاطعة، لتقول إن كل أطراف البلاد الرئيسية لا تثق بأي أحد من هذا اللّملوم كله.الثقة ليست على أي حال، بضاعة من بضائع السياسة بالأساس. والذين يحكمون في العراق اليوم، لم يقدموا دليلا على أن الثقة تشكل معيارا مهمّا لهم. ولئن تبرع الصدر بالاعتراف بأنه غير جدير بالثقة، فإن جماعات البيت الشيعي تمارس “التقيّة” مع كل قيم الشرف، وليس مع الثقة وحدها.
انهيار القيم الوطنية، كان بالأحرى امتدادا طبيعيا لانهيار الدولة، ولأن الاحتلال الأميركي والإيراني، كأي احتلال آخر، لا يستعين إلا بسقط المتاع، لأنهم أنسب لمصالحه. ومن الطبيعي، بعد ذلك، أن تسقط الإدارة العامة في بئر الفساد والعمالة والجريمة.الصدر وأقرانه في “البيت الشيعي” جاؤوا إلى السلطة مما فاح من “عبق” التفسخ السياسي والاجتماعي والانحطاط الثقافي في العراق، من قبل غزوه. فلما جاء الغزو، وجد بضاعته جاهزة.
ما من شيء في العراق اليوم يمكنه أن يقدم إشارة على أن إصلاحه ممكن، ما بقي أهل الفساد هم أنفسهم أهل المساومات والتنافس على الحصص.ولا توجد قيم وطنية داخل لعبة تكوين الكتل وتحالفاتها. ولكن توجد حصص، يجري السعي لتقاسمها بهذه الطريقة أو تلك، فتُعقد المساومات على أساسها.وحتى ولو أقرّ الجميع بأن الثقة ليست معيارا من معايير التفاوض، فان عرض الصدر منح المستقلين “مساحة لإدارة البلد”، هو نفسه عرضٌ من عروض الفساد لتقاسم المصالح.هذا العرض يقول: نعطيكم حصة تمارسون بها وطنيتكم، واتركوا لنا الباقي. إنه، بعبارة أوضح، عرضٌ لتشكيل حكومة تمارس الشرف مرة واحدة في الأسبوع.