لا يكون عراقيا وطنيا محترما وشريفا من لا يتمنّى أن تكون دولته حرة آمنة موحدة وقوية وذات سيادة حقيقية محصنة بلا وصاية من أحد، طائفية أو قومية أو استكبارية، وأن تكون حكومتُها نزيهةً شريفة شجاعة عاقلة عادلة تستحق المحبة والثقة والاحترام.لكن هذا العراقي، ومنذ زمن بعيد، لم يجد هذه الدولة، ولم يُكحل عيونه بتلك الحكومة. فهو، من قرون، محرومٌ من عيدٍ وطني واحد يحتفل به طواعيةً وبحماس ومسرَّة، وينشد فيه نشيدا وطنيا واحدا يشاركه في إنشاده صغار الوطن وكباره، ويلوّح بعلم واحد، ويهتف لرئيس مبجل ومحبوب بعفوية ودون طمع في منصب أو مكسب أو عمولة، وبلا خوفٍ من شرطي أمن، أو ضابط مخابرات، أو سلاح ميليشيا.
وحتى العهدُ الملكي الذي كان أرحم، كثيرا، مما جاء بعده من عهود، وأقلَّ ظلما وعدوانا وخيانة واختلاسا وعمالة، كانت الوصاية الأجنبية البريطانية تقرر له أهم شؤونه الداخلية والخارجية. وحتى بعد أن استقل وأصبح دولة من دول عصبة الأمم ظلت غيومُه المُجزية لا تُمطر إلا على المدينة التي يحددها الباشا دون غيرها، وعلى هذا الشيخ دون غيره، وعلى ذاك الحزب دون سواه.
ومنذ سقوطه توالت العهود ولم تتوقف. يأتي عهدٌ على دبابة، ثم يذهب تحت دبابة، ثم يضاف إلى قائمة العهود البائدة. حتى لم يبق عراقي واحد إلا وأصبح من أتباع هذا العهد البائد أو ذاك، فصودرت أمواله، وسُجن، أو اختفى، أو (هجَّ) إلى بلاد الله الواسعة دون خام ولا طعام.فمن أول أيام غزو صدام حسين للكويت وانطلاق مسيرة نظامه نحو سقوطه الأكيد بدأ معارضوه اللاجئون في دول المساعدات الإنسانية يخرجون من الأقبية المظلمة، بعد أن كانوا يتسترون، ويتخفون، ولا ينامون أو يفيقون إلا وهم يتلفّتون خائفين من رصاصة غادرة، أو من سكين أحد جواسيس مخابرات برزان.
وفي جميع بياناتهم، ومؤتمراتهم، وزياراتهم إلى واشنطن ولندن وطهران ودمشق وعمان راحوا يعدون العراقيين بتعويضهم عن أيام صدام، وعن تعديات إخوته وولديه ومعاونيه الكبار، ويقسمون على أنهم لن يقبلوا إلا بدولة العدل والكرامة والديمقراطية والمساواة والرخاء.ثم وقع المقدر والمكتوب. فقد تطوع (الحلفاء) الأميركيون فخلّصُوا الناس من الدولة كلها، من جذورها، وأقاموا على أنقاضها ديمقراطية الخنجر والساطور، وأهدوها لحليفتهم إيران، وسلّموا حكومتها لشلة الشطار السبعة، وغادروها على عجل، واحتفل المرجع الأعلى وقائد الميليشيا ورئيس القبيلة.
وعلى الفور، ومنذ الأيام الأولى تبين لكل عراقي ذي عينين وأذنين وشفتين أن التغيير سراب، وأن كل شيء في العراق الديمقراطي الجديد ليس ديمقراطيا، ولا جديدا، البتّة.ولكي تعرفوا مقدار شعور المواطن العراقي بالمرارة تخيّلوا أن وطنا معروفا بأنه وطن الموهوبين والعمالقة المبرزين في العلوم والسياسة والاقتصاد والثقافة والفنون يصبح فيه أناس مثل إبراهيم الجعفري ثم نوري المالكي ثم حيدر العبادي ثم عادل عبدالمهدي ثم مصطفى الكاظمي رؤساء وقادة قوات مسلحة ومخوّلين بصياغة حاضر الوطن ومستقبل أجياله القادمة لسنين طويلة، وربما لقرون.
العراقي، ومنذ زمن بعيد، لم يجد هذه الدولة، ولم يُكحل عيونه بتلك الحكومة. فهو، من قرون، محرومٌ من عيدٍ وطني واحد يحتفل به طواعيةً،حتى المقاتلون السابقون في صفوف الجيش الإيراني ضد ضباط جيش بلادهم وجنوده، ورؤساءُ العصائب الذين لا يجيدون سوى مهنة التهريب والتبعية وسرقة معسكرات الجيش ومصافي البترول والمصارف صاروا قادةً يفتون ويقبلون هذا ويرفضون ذاك عند تشكيل الحكومة، وعند تعيين رئيس الجمهورية، وعند كتابة الدستور وصياغة شكل الدولة ولونها وطعمها. إلى الحد الذي أصبح معه سارقٌ مدانٌ، قضائيا، رجلَ الساعة الذي تتسابق الفضائيات لاستضافته من أجل أن يُبشر مشاهديها ببعض قرارات النخبة القيادية العليا، وأسرارها. ثم يعترف، علنا وعلى شاشات التلفزيون، ودون خوف ولا حياء، بأنه، ورفاقه في المحاصصة مختلسون ومزورون وملفقون.
شيء آخر. وبمناسبة الصراع الصاروخي الجديد بين حلفاء الأمس الإيرانيين والكرد العراقيين، لم يعرف قادة أحزاب الإطار التنسيقي الشيعي الإيراني بأن لدى حلفائهم في كردستان مخابئ للموساد الإسرائيلي، إلى أن جاء الحرس الثوري فأرسل إلى أربيل اثني عشر صاروخا دفاعا عن الشرف الفارسي الرفيع، وعقابا، كما قالت وكالة أنباء الحكومة الإيرانية، لحزب مسعود بارزاني على تعاونه مع الإسرائيليين على تهديد الأمن القومي الإيراني، وهو ذنب لو تعلمون عظيم.وهنا، وفجأةً، استفاقت الوطنية من سباتها الطويل عند حبايب إيران، وانتفضوا دفاعا عن السيادة (المقدسة) التي لم تنتهكها صواريخ الولي الفقيه، ولكن مكاتبُ الموساد التي يستضيفها البرزانيون.
أما مقتدى الصدر، وهو القائد الفائزُ بأكثر مقاعد البرلمان المُصرُّ على الإصلاح وتحقيق العدالة وتحرير الوطن من جميع الوصايات الأجنبية الشرقية والغربية، وحليفُ جماعة أربيل، فقد أعلن على لسان حاكم الزاملي، القيادي في التيار الصدري المعيّن نائبا لرئيس البرلمان، قائلا إن “استهداف أربيل كان خرقا غير مقبول، لكننا نبحث عن الأسباب والمسوّغات”، وما زال يبحث عن الأسباب والمسوغات، حتى ساعة كتابة هذه المقالة.هذه هي الدولة التي يصنع التيار والإطار ومن بينهما رؤساءَها ووزراءها ومدراءها وسفراءها، وقضاتها وقوانينها.مثلا، إن نوري المالكي، بعد كل الأموال التي أهدرها، أو هرّبها إلى طهران أو لندن أو بيروت أو عمّان أو دبي، هو وابنُه وصهراه وأعوانه المقربون، في سنوات رئاسته للحكومة، 2006 – 2014، وبرغم كل الدماء التي سفحها بالباطل، ورغم أنه المتسبب الأول والوحيد باحتلال ثلث الوطن، ها هو واقف على قدميه، إلى اليوم، يأمر ويطاع، ولا حكومة ولا رئيس جمهورية ولا رئيس وزراء دون رضاه ومشورته، حتى لو بقي الوطن تائها ضائعا معطلا شهورا، ولو لزم الأمر، سنوات.لقد أخذوا الدولة كلها، بقضّها وقضيضها، وتركوا أهلها في غيهم يعمهون.