على وشك إكمال قراءة هذا الكتاب الذي يمتد على مساحة 530 صفحة من القطع الكبير، لكن توق الكتابة عنه يبدو حاجة مستمرة قبل أن أقرأه أصلا! فمتنه مقطع طولي لقصة شاسعة عن بلاد كانت في يوم ما تعبّر عن نفسها بالغناء. ذلك ما عبر عنه الموسيقار الراحل سالم حسين الأمير في كتابه “سيرة وذكريات: السفر الممتع والزمن المبدع”.
العرب برمتهم يعرفون وجه هذا الموسيقار وإن كانوا لا يتذكرون اسمه، فكل أغاني الفنان الراحل ناظم الغزالي المصورة، كان سالم حسين فيها يتوسط الجوقة الموسيقية عازفا على القانون. لكن الأهم من ذلك تلك الحكايات التي يسردها بلغة يومية مبسطة للغاية، كشاهد على زمن موسيقي امتد من بغداد والكويت مرورا بدمشق حتى بيروت والقاهرة.
لن يعول قارئ هذا الكتاب على فذلكة اللغة، لأنه سيبقى تواقا لمتابعة كم المعلومات التي يسردها الأمير القادم من قضاء سوق الشيوخ على ضفاف الأهوار إلى بغداد.
يستذكر ما مر به، منذ أن كان تلميذا في معهد الفنون الجميلة أيام عمادة الشريف محي الدين حيدر في أربعينات القرن الماضي، إلى سنوات عمره الأخيرة حتى رحيله عام 2015 في بروكسل.
السيد العظيم يوتيوب يقدم لنا إحدى لمسات سالم حسين الموسيقية في الأغنية الشفافة التي كتبها ولحنها للفنانة المصرية سعاد محمد “يا ساكن ابديرتنه اشلون وياك” عام 1961 وتكاد تكون أفضل تعريف لموسيقى سالم حسين العربية، مع أن قائمة ألحانه تمتد من وديع الصافي إلى فايدة كامل وإسماعيل شبانة ونرجس شوقي والثلاثي المرح وشهرزاد ودلال شمالي، حتى الأصوات العراقية المؤرخة في عمقها التعبيري المجسد للمقولة التاريخية “كن عراقيا كي تكون مغنيا”، سليمة مراد ولميعة توفيق ومائدة نزهت وهناء وناصر حكيم.
يكفي الإشارة إلى أنه أول من اكتشف فؤاد سالم وغادة سالم ليأخذا اسمه في شهرتهما الفنية. لحّن أول أغنية لفؤاد سالم “سوار الذهب” ليصبح بعدها المعبر الملتاع عن الغناء عندما بقي جوهرة في قلادة الغناء العراقي من سبعينات القرن الماضي، حتى رحيله غريبا في دمشق.
اليوم وأنا أقرأ هذا الكتاب بشغف قل نظيره أتذكر لقائي الأخير بالموسيقار الراحل سالم حسين في منزل صديقي الموسيقار نصير شمه في حي المنزه بتونس منتصف تسعينات القرن الماضي، ولسوء الحظ كانت الساعات الأخيرة قبل مغادرته تونس، وبينما أستعيد الأسئلة التي كنت أود إطلاقها عليه، كان موعد رحلة الطيران أسرع من شراك “لعبتي الصحافية”، فالطائرات لا تنتظر الصحافيين قبل تحليقها!
واحدة من أروع قصص هذا الكتاب، تلك الحكاية التي يرويها سالم حسين عندما اتصل به الغزالي في يوم ما طالبا منه إحضار صورة شخصية له والالتقاء في شارع السمؤال وسط بغداد. كان موعدا مثيرا في شارع البنوك آنذاك عندما فتح الغزالي حسابا مصرفيا لصديقه سالم حسن ووضع فيه مبلغ ألف دينار عراقي حقوق كل حفلات الفترة الماضية، كان الأمر مثيرا بالنسبة إلى عازف القانون، فهذا المبلغ يشتري آنذاك وفق الموسيقار أبوسوسن “ملوية سامراء”!
اليوم وأنا أوشك على إنهاء قراءة تلك المدونة التاريخية لأحد أهم موسيقيي العراق، كم كان بودي أن يكون لعميد الغناء العراقي عباس جميل أو رضا علي أو محمد جواد أموري أو طالب القره غولي مثلها قبل رحيلهم، لكن هذه الأمنية قائمة ومحرضة للموسيقار فاروق هلال ومحسن فرحان وجعفر الخفاف والدكتور فاضل عواد وسعدون جابر وحسين نعمة…