إذا وضعنا مصر جانبا، مصر التي تظلّ استثناء بسبب تاريخها القديم ووجود دولة عميقة فيها، بات مستبعدا أن تقوم قيامة لدول تشهد مزيدا من الاضطرابات في أيامنا هذه. من بين هذه الدول، التي صارت دولا فاشلة، ليبيا والسودان وسوريا والعراق واليمن.
تبقى دولتان تقتربان من الفشل تمران في مرحلة انتقالية هما لبنان وتونس. في لبنان، الذي انهارت مقومات وجوده، ليس معروفا ما الذي سيحصل مع نهاية عهد ميشال عون في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر المقبل. تزيد هيمنة “حزب الله”، الذي يمثل الاحتلال الإيراني على مفاصل الدولة ومؤسساتها، الصورة اللبنانيّة غموضا.
في تونس، سيتبيّن هل سيكون الاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد في الخامس والعشرين من الشهر الجاري نقطة تحوّل في اتجاه استعادة الدولة المركزيّة القويّة دورها. سيظهر الاستفتاء ما إذا كان في الإمكان وضع حدّ للتجاذبات القائمة حاليا. إنّها تجاذبات تشكل الطريق الأقصر لتفتيت مؤسسات الدولة وتحويل تونس إلى دولة عربيّة أخرى تعيش في ظلّ الفوضى التي عمل الإخوان المسلمون على ترسيخها عبر حركة النهضة.
تكمن مأساة ليبيا في أنّ سقوط نظام معمّر القذافي كان سقوطا نهائيا لما بقي من دولة. ما تشهده المدن الليبية حاليا تعبير عن وجود ثورة شعبيّة حقيقية على الذين تقاسموا السلطة منذ سقوط “الجماهيريّة” بنظامها المضحك المبكي الذي لم يكن سوى تعبير عن دكتاتورية مارسها رجل مهووس بالسلطة في تصرفّه مليارات من الدولارات استخدمها من أجل الهدم وتحقيق نزوات شخصية. يوجد يأس لدى الشعب الليبي الذي مازال يحاول استعادة دولته. سيكون ذلك صعبا في غياب قوة مؤثرة تعرف ماذا تريد تقف في وجه الميليشيات المختلفة التي تتقاسم ليبيا في ظلّ وجود مسؤولين لا يجمع بينهم سوى قاسم مشترك واحد هو الانتهازية وقصر النظر وغياب أي نضج سياسي. قد يكون الأمل الوحيد لليبيا في امتلاكها ثروة نفطية في وقت يحتاج فيه العالم، خصوصا أوروبا، إلى الطاقة. ليس مستبعدا بذل أوروبا جهودا جبارة من أجل التوصل إلى وضع مستقر، وإن نسبيا، في بلد يبدو مصيره على كفّ عفريت.
ليس السودان أفضل من ليبيا بعدما عمل العسكر والإخوان المسلمون في الوقت ذاته على تفتيت مؤسسات الدولة ومنع قيام نظام ديمقراطي ذي طابع مدني مرتبط بكلّ ما هو حضاري في هذا العالم. ما لم ينجح به جعفر النميري الذي حكم طويلا منذ أواخر ستينات القرن الماضي إلى منتصف الثمانينات، نجح فيه ضابط آخر هو عمر حسن البشير الذي بقي ثلاثين عاما في السلطة وأخذ السودان إلى مكان آخر. حسنا، استطاع الشعب السوداني الانتصار على نظام البشير، بكلّ ما يمثله من تخلّف، لكن السؤال هل الذين انتفضوا أخيرا ونزلوا إلى الشارع يمتلكون غير المطالبة بسقوط العسكر والتخلص منهم نهائيا؟ الجواب أنّ السودان في حاجة إلى وعي سياسي شعبي، لا لشيء سوى لأن القوى السياسيّة لم تنجح، منذ الاستقلال في العام 1956 في إقامة نظام قابل للحياة.
يدور السودان، الذي يحتاج إلى مرحلة انتقاليّة تؤدي إلى انتخابات تؤسس لحكم مدني، في حلقة مقفلة. من يكسر الحلقة عندما لا تكون هناك على رأس التحرك الشعبي قيادة تعرف ماذا تريد؟…
لا يشبه الوضع العراقي أي وضع آخر في المنطقة. هناك انسداد كامل على كلّ الجبهات الداخليّة في ضوء فشل أميركا في إقامة نظام بديل عن نظام صدّام حسين الذي تخلّصت منه في العام 2003. كان نظام صدّام سيئا إلى حد كبير، لكنّ الإدارة الأميركية لم تستوعب في العام 2003 أنّ المحاصصة الطائفية لا تبني نظاما ديمقراطيا في العراق بمقدار ما أنّها تعني تسليمه إلى إيران. لم يعد النظام العراقي قابلا للحياة. العراق نفسه لم يعد بلدا قابلا للحياة بعدما ارتبط مصيره بمصير النظام في إيران.
لم يعد العراق سوى نموذج للدولة الفاشلة على غرار سوريا حيث قتل النظام نصف مليون سوري وهجّر الملايين لمجرد أنّ المواطن يبحث عن حدّ أدنى من الكرامة. لا يوجد لدى النظام السوري، على غرار ما هو حاصل في العراق، أي حلّ لأي مشكلة داخليّة. انتهت سوريا وبقي النظام في دمشق تحت رحمة الإيراني الذي يأتي متى يشاء ويذهب متى يشاء ويأخذ من بشّار الأسد الموقف الذي يشاء… فيما تضرب إسرائيل حيث تشاء!
أربع دول عربيّة على الأقل، هي ليبيا والسودان والعراق وسوريا تبحث عن صيغة جديدة تعيش في ظلها. سيستغرق العثور على صيغة سنوات طويلة بعد كلّ ما عانته المجتمعات في الدول الأربع التي تحتاج إلى عملية إعادة تركيب من جديد. هذه الحاجة حاجة يمنيّة أيضا حيث البحث عن صيغة جديدة مختلفة لهذا البلد ذي الأهمّية الاستراتيجية الكبيرة سيستغرق طويلا، بل طويلا جدا.
خلاصة الأمر أن المنطقة كلّها في مرحلة مخاض بعد كلّ الهزات التي تعرّضت لها منذ الزلزال العراقي في العام 2003 وأحداث “الربيع العربي” في 2010 و2011. لكنّ السؤال الكبير الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا ما العمل من أجل استعادة الحدّ الأدنى من الاستقرار الشرق أوسطي الذي تحول إلى حاجة عالمية بعدما استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين افتعال حرب في داخل أوروبا التي بدأت تتذكر مرحلة ما قبل وصول أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا وخطورتها؟ بالطبع، يختلف بوتين عن هتلر على الرغم من أنّه يمتلك الذهنيّة نفسها. يعود ذلك إلى أن الجيش الروسي، الذي بات يسيطر على نحو عشرين في المئة من الأراضي الأوكرانيّة، لا يمتلك الميزات التي امتلكها الجيش الألماني زمن هتلر.
بات واضحا أنّ العالم يتغيّر بسرعة، ستكون الحرب في أوكرانيا طويلة. الحروب الداخليّة العربيّة ستكون طويلة أيضا. اللافت في الأمر أن لا دور قياديا لأميركا في هذه المرحلة بالذات. هل بات الغياب الأميركي ميزة بداية العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟