ليس فقط بسبب تقارب المناهج والمصالح تتشكل التحالفات، وإنما بسبب وجود مخاطر معينة تستهدف الراغبين بالتحالف فرادا أو مجتمعين، وبسبب قوة الخصوم، والإستشعار بخطرهم، وبسبب عدم التيقن من قدرة أي فصيل على الحصول على نتائج تؤهله للحكم، أو المشاركة فيه، والتحالفات لا تحددها مؤثرات الداخل فقط، وقلما نجد تحالفا إنبثق فعلاً عن متطلبات وطنية ( داخلية ) صرفة، من دونما تأثير خارجي ، بهذا القدر أو ذاك، فأي بلد في العالم ليس معزولاً عن الدول الأخرى، الفاعلة والمؤثرة فيه، سواء كانت مجاورة أم بعيدة جغرافياً، لكنها تُعد في زمن مُحدد قطباً مُهيمناً عالمياً.
الدور الخارجي لا يتمثل فقط في التأثير على تشكيل التحالفات، وإنما في خلق الأحزاب والهيئات والمنظمات والقوى، وبالأخص ما يُسمى بـ( منظمات المجتمع المدني)، التي تدعي أحياناً رفضها للهيمنة الخارجية، وربما تدعي ثورية لا يدعيها الثوريون الحقيقيون، لكنها في واقع الحال مرتهنة وتابعة لمن يمولها , كان هذا موجوداَ قبل تحوّل العالم إلى قرية صغيرة، وقبل الثورة الإعلاماتية، وقبل وأثناء مرحلة الحرب الباردة، وإن كان يُغطى غالباً ببراقع مُختلفة، أما الآن فقد أصبح سافراً، إذ لم يعد ما كان مُعيباً ومُخجلاً، مُعيباً بنفس الدرجة، أو مُخجلاً بنفس القدر، ويمكن القول أنه أصبح أمراً طبيعياً، و ربما مدعاة للتباهي بالنسبة للبعض.
وإذ كان هذا الدور ( دور تأسيس المنظمات والتحالفات ) مقتصراً على الدول العظمى، الباحثة عن مصالحها في صراعاتها بعضها مع بعض، فإنه الآن يشمل دولا لا هي في العير ولا في النفير، ولا أفضلية لها سوى أنها تابعة، وتملك مالاً، وهذا ما زاد الخارطة السياسية في المنطقة تعقيداً، وجعلها بالفعل، تعيش الفوضى التي أسموها خلاقة، فلعب الصغار لن يكون مثل لعب الكبار، ويبدو أن ( لعب الصغار) مطلوب مرحلياً لحين رسم خارطة المنطقة من جديد، حيث سيكون اللعب كله للكبار، وللكبار فقط , التحالفات في العراق لا تخرج عن هذا الإطار، فما من تحالف نشأ على برامج محددة ملموسة، لا إجتماعية، ولا وطنية، ولا حتى أثنية أو طائفية، وإنما برنامجهم و صنمهم جميعاً (التقاسم)، أكان تقاسماً طائفياً، أم أثنياً، أم كتلوياً حزبياً، من دونما مصلحة ملموسة لا للشيعة البسطاء، ولا للكرد البسطاء، ولا للسنة البسطاء، وإنما الغنم كله، بلا زيادة ولا نقصان، لمن يدعي تمثيل الشيعة أو السنة أو الكرد، ذاك المنضوي اليوم تحت خيمة التحالف الشيعي، أو السني، أو الكردي، والذي سينضوي غداً تحت اي خيمة ستظهر، ويجد فيها مصلحته ومنفعته، وتحت اي مُسمى.
الشيعية مبرّزة، والسنية مبرّزة، والكردية مُبرّزة، أما الشيعي، والسني، والكردي، فمغيّبون. يغيبون المواطن الإنسان، الذي لا يتذكرونه إلا أثناء الإنتخابات، وبتبريزهم للمذهبية والعنصرية، وتغيبهم للإنسان، يكونون قد غيبوا العراق، وبالتالي غيبوا العراقي , هي ثلاث ورقات يلعبها ساسة العراق الجديد( الورقة الشيعية، والورقة السنية، والورقة الكردية)، أما العراق فهو كاليتيم على مائدة اللئام , الكردي مواطن عراقي، لا أكثر من الشيعي والسني ولا أقل، والشيعي مواطن عراقي لا أكثر من الكردي والسني ولا أقل، والسني مواطن عراقي لا أكثر من الشيعي أو الكردي ولا أقل، والثلاثة مواطنون عراقيون، لا أكثر من التركماني والمسيحي أو الصابئي والأيزيدي ولا أقل.
أليست هذه الخيمة (العراقية)، الجامعة، الموّحدة، أفضل وأنفع وأجدى، وأكثر ربحية من أوراق لا تقوم لها قائمة إلا على جثة وطن رائع إسمه العراق، وعلى أشلاء العراقيين , عشر سنوات ثقال، حبلى بكل ما هو شائن، مرت على العراق المُبتلى بإرث إحتلال رحل ولم يرحل. إحتلال ترك بصماته في كل شيء، في الدستور، ونظام الحكم، والقوانين، والإجراءات، والأجهزة، والعملاء والأتباع المنتشرين في كل مكان. إحتلال وضع على طاولة المقامرين بمصلحة الوطن ثلاث ورقات، عليهم أن يلعبوا بها، وبها وحدها. أوراق لا تتيح لأي مقامر منهم أن يربح اللعبة، حتى لو إستنجد شرقاً أو غرباً أو شمالاً، علماً بأن الإستنجاد بالشرق أو الغرب أو الشمال مُباح طالما هو يبقي أوراق اللعب على الطاولة، وطالما يظل الغريم (ناصبي) أو (رافضي)، فاللعب هنا لا يخرج عن قواعد اللعبة، وكما خُطط لها تماماً.
بعد عشر سنوات من الكارثة، وبعد مئات آلاف الضحايا، ومئات آلاف المهجرين داخلياً ، وأضعافهم خارجياً، ودمار مُمنهج طال كل شيء، البشر والحجر، الحاضر والماضي، فهل لنا أن نفعل شيئاً للمستقبل، إن لم يكن لنا فلإبنائنا.
ألم يحن الأوان، لرفع الأوراق الثلاثة من على المائدة، والإتجاه لنبض الناس، وإستجلاء همومهم، ولمس معاناتهم الحقيقة؟
لقد غادرت جيوش الإحتلال أرض العراق قبل عام، فلنرسل بإثرهم أوراقهم الثلاث، ولو بعد مغادرتهم بعام. لنتبارى جميعاً بورقة واحدة، هي ورقة العراق، وليتنافس المتنافسون في خدمة هذا الرائع الذي بفقدانه ستفقد البشرية ما لا يمكن تعويضه، إرثاً وإلهاماً.
لنشكل تحالفاتنا من وحي إحتياجات شعبنا، وهمومنا، وهواجسنا، وتطلعاتنا، أما العواء المذهبي، والأثني، والدعوات البليدة للتقسيم، فمثلها في أحسن الأحوال كمثل المستجير من الرمضاء بالنار، إنها وصفة خبيثة لتأبيد الإحتراب، وإدامة الدمار، حيث سينغمس الإخوة، وأبناء العمومة في صراع لا نهاية له حول هذا الشبر من الأرض، وحول هذا الطريق أو المعبر، وسيسعى المصابون بالعمى الطائفي والأثني لإنشاء المناطق المغلقة، النقية، والصافية من شوائب الآخر، وهذا ليس محض ظن، فقد جرت وقبل سنوات قليلة ماضية عمليات تهجير بشعة، مازال العراق يُعاني منها لحد الآن، ولم يكن التقسيم حينها سوى وهماً يعشش في عقول حامية نخرها التعصب، فكيف إذا حدث التقسيم عملياُ وفعلياً .
عيدنا – نحن العراقين- يوم نجد تحالفات على إمتداد الوطن، يترشح فيها الكردي في المشخاب والرميثة، والعربي في حلبجة والعمادية، والشيعي في الأنبار وبيجي، والسني في الحي والعمارة. . يومها نقول بأعلى صوت : لقد رحل المحتل فعلاً .