إن الظاهر أن غالبية الشعب العراقي مصممة على البقاء خارج دائرة الصراع المحتدم بين جماعتين سياسيتين تحركمها أحقاد شخصية اُلبست ثوبَ الوطنية والحق والشعب والنزاهة والإصلاح، ومن خلف كل واحدة منهما جيوش المؤيدين والخدم والمصفقين.
وهذا ما جعل دعوة مقتدى الصدر جموعَ العراقيين إلى الانخراط في (ثورته الإصلاحية) والجهاد تحت رايته لا تفعل فعلها، وذلك بسبب سلسلة طويلة من الأخطاء والمخالفات والاستدارات والاعتداءات التي ارتكبها صدريون ضد المنتفضين التشرينيين، والمشاركة في قتلهم في بغداد والناصرية والبصرة وكربلاء. ومن قرَصَه الثعبان يخاف من الحبل، كما يقولون.
ومن علائم عبثية هذه الصراع أن قياديا في جماعة سنية متحالفة مع التيار الصدري ظهر بصفة محلل على إحدى الفضائيات العراقية المشاغبة التي اتخذت دور المشجع المُحرض المنحاز فحلف بربّ الكعبة، وقال، “لو أن إخوتنا في الإطار أرسلوا وفدا إلى سماحة السيد مقتدى الصدر لاستئذانه باختيار محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة لرحَّب، ولَوافق، وأعطاهم مهلة سنة كاملة للتجربة، ولكن الإطاريين لم يفعلوا ذلك، الأمر الذي جعل السيد يرى في هذا الترشيح تحديّا شخصيا له، فأمر جماعته بدخول المنطقة الخضراء، وباقتحام مبنى البرلمان، من باب جرّ الإذن، ولإرهابهم، وتحذيرهم من غصبه القادم الشديد”.
فإن كان هذا الكلام صحيحا فهو شتيمة كبيرة وإدانة لمقتدى بالمزاجية وعدم الصدق في سعيه للإصلاح وخدمة الوطن والمواطن. لأن اللائق والمنتظر من أي رجل وطني مخلص ناضج حكيم ألاّ يخضع قضايا الوطن لمزاجه الشخصي وأحقاده وثاراته وعناده، بل أن يقيس قضيةً وطنيةً كبرى من وزن اختيار رئيس حكومة بميزان العقل والمصلحة الوطنية العليا، ثم يحكم للمرشح أو عليه.
والحقيقة أن هذا هو حال الدولة العراقية، منذ سنوات. فهي تدار بهوى بضعةٍ من الطارئين على السياسة المتعاركين على المنفعة الشخصية والحزبية والأسرية، بالتظاهرات.
ولا يملك المواطن الواقع بين سندان التيار الصدري ومطرقة الإطار التنسيقي إلا أن يحزن كثيرا وهو يقارن بين عراق اليوم وعراق الأمس حين كانت أمور الدولة والسياسة يديرها كبار ذوو حكمة وأمانة ووطنية حقيقية أيام عبد المحسن السعودون ونوري السعيد وفاضل الجمالي وتفيق السويدي ومحمد رضا الشبيبي ثم عبد الكريم قاسم وعبد الرحمن البزاز وطاهر يحيى وناجي طالب.
ألم تروا وتسمعوا المعتصمين الصدريين في مبنى البرلمان كيف يشتمون، وماذا يفعلون، وبماذا يهتفون، وماذا يريدون، وأية شعارات يرفعون؟.
بالمناسبة إن اقتحام المنطقة الخضراء ليس جديدا، فقد استخدم مقتدى وحزب الدعوة وفصائل الحشد الشعبي هذا السلاح المبتكر، مرات ومرات.
فمقتدى، مثلا، جعل اقتحامَ المنطقة الخضراء لعبته المفضلة. ففي 30 آذار/مارس 2016 نصب خيمة داخلها، وبدأ اعتصاما مفتوحا وجاعلا تقديمَ رئيس الوزراء حيدر العبادي أسماءَ تشكيلة وزارية جديدة شرطا لفك ذلك الاعتصام.
وفي 26 مايو/أيار 2021 طوقت فصائل الحشد الشعبي المنطقة الخضراء، ومنعت الدخول إليها، بعد ساعات قليلة من إعلان قوات الأمن عن اعتقال قائد عمليات الأنبار في الحشد الشعبي، قاسم مصلح، بتهمة “قتل المتظاهرين”.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2021 واصلت الفصائل المسلحة محاصرة المنطقة الخضراء اعتراضا على نتائج الانتخابات التي فاز فيها التيار الصدري بأكثر المقاعد، واشترطت لفك حصارها إعادة فرز النتائج يدويا.
بل إن هذه الفصائل لم تكتف بمحاصرة المنطقة الخضراء أو اقتحامها أو تهديد سكانها، فقط، بل أضافت إلى ذلك هجماتها الصاروخية عليها، وعلى السفارة الأمريكية فيها، وعلى المطار.
ولكن مقتدى، هذه المرة، أضاف إلى الاقتحام بدعة احتلال مبنى مجلس النواب، ثم محاصرة قصر نوري المالكي، وهو تصعيدٌ خطير قد يُجبر الإطار الولائي على الرد بالمثل، خصوصا وأن لكليهما أكواماً من السلاح المنفلت المتجبر المتمرس على القتل والاغتيال والاغتصاب والابتزاز والعمالة للأجنبي.
كما أن حكومات وأجهزة مخابرات وفضائيات وأحزابا وعشائر داخلية وخارجية واضعة أياديها غير البيضاء في الملحمة، لئلا ينجو من حرائقها أحد، وقد تَكتب النهايةَ لدولة كان اسمُها العراق.
وليس بعيدا ولا غريبا، إذا ما استمرت التدخلات الخارجية المعادية لإيران، وتصاعدت حروب التسقيطات والتهديدات والإهانات الداخلية المتبادلة بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، أن يُضطر الولي الفقيه، أخيرا، لإرسال حرسه الثوري، بلحمه وشحمه، لينتزع إدارة الدولة من صبيتها المشاكسين، قبل أن يحرقوا أنفسهم، ويحرقوا معهم أوراقه كلها، فيخسر جوهرة تاجه الثمينة، العراق، وهو في أمس الحاجة إليه.
ورغم أن هجمة الصدريين على المنطقة الخضراء، واعتصامهم داخل مبنى مجلس النواب، أسلوب غوغائي لا تقره القوانين، ولا الأصول، ولا الديمقراطية التي يتغنون بها، إلا أنها كانت نافعة.
فقد كشفت حقيقة النظام المغشوش المتهاوي الهش الذي أقامه الحاكم الأمريكي بول بريمر ومرجعية السيستاني وإيران وآل برزان وآل طالباني، وأكدت حاجة الشعب العراقي إلى قلعه كله من جذوره وإقامة نظام جديد على قواعد من حديد.
والسؤال المهم هنا، هو كيف يقف جيش الدولة وقواتُه البرية والجوية والبحرية والفضائية والآلاف من ضبطاه وجنوده على الحياد بين جماعتين كلتاهما تعتدي على الدولة وتنتهك حرمتها وتعطل حياة أهلها وتخالف قوانينها ودستورها؟، أليس من واجبه أن يقف بجرأة وشجاعة ووطنية خالصة بوجه المتجاوزين والمعتدين والقتلة والمزوين، من هؤلاء وأؤلئك؟. فلمَ تحتاج الأمم إلى جيوشها، وتنفق عليها من عرق جبينها ودمها ومن رزق عيالها؟.
بلا زعل ولا حساسيات وعصبيات وحماسات عاطفية غوغائية مؤذية لا بد من القول بأن قواتنا المسلحة، منذ رئاسة نوري المالكي الأولى 2005، والثانية 2010، كانت ترى المنكر ولا تغيره بيدها، ولا بلسانها، ولا بقلبها وهو أضعف الإيمان.