تناور إيران معتمدة الدهاء، مستغلة وجود إدارة أميركية عاجزة عن فهم خطورة المشروع التوسّعي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة وأبعاده. حصلت عودة إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني أم لم تحصل مثل هذه العودة. لن يكون ذلك مهمّا بمقدار ما أنّ المهمّ وجود المشروع التوسّعي الذي لا هدف له سوى تدمير دول عربية معينة، في مقدمها العراق، والتأكّد من أنّه لن تقوم لها قيامة يوما.تراجع هذا المشروع في غير مكان، بما في ذلك العراق نفسه. لكنّ إيران مصرّة على تأكيد أن ذلك لم يحدث وأن العراق لا يمكن أن يخرج من الدوران في الفلك الإيراني، مثله مثل لبنان.
التقطت إيران كلّ الإشارات التي كان عليها التقاطها وذلك منذ الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان قبل سنة. أرسلت وقتذاك إدارة جو بايدن، من خلال الطريقة الفوضوية التي نفّذت بها الانسحاب من أفغانستان، كلّ الرسائل الخاطئة إلى حلفائها في المنطقة. لم يساهم مجيء الرئيس الأميركي إلى جدّة منتصف شهر تمّوز – يوليو الماضي في إزالة الشكوك في التذبذب الأميركي في ظلّ حال من الضياع تعيش في ظلّها أوروبا التي تعاني من نتائج الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة وأزمة الطاقة التي نتجت عن هذه الحرب من جهة أخرى.
يبقى العراق المكان الأهمّ الذي تسعى إيران من خلاله إلى تأكيد أنها لا تزال قوة إقليمية مهيمنة لا مفر أمام أميركا من عقد صفقة معها. تعني مثل هذه الصفقة رفعا للعقوبات المفروضة على “الجمهورية الإسلامية”، وهي عقوبات تؤثّر على تمويل إيران لنشاطات ميليشياتها المذهبيّة خارج حدودها.تسعى إيران يوميّا إلى إظهار مدى تحكّمها بالوضع العراقي، بغض النظر عن وجود أكثرية شعبيّة في هذا البلد تنظر إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” بصفة كونها قوّة استعماريّة. من هذا المنطلق، يمكن فهم كلّ هذه الجهود الإيرانيّة التي تصبّ في مكان واحد تحت عنوان واحد. المكان هو العراق والعنوان هو تبعية العراق لإيران من منطلق مذهبي قبل أيّ شيء آخر.ليس الاستسلام أمام إيران، عبر تجاهل مشروعها التوسعي، سوى استكمال لكارثة الانسحاب من أفغانستان التي كشفت وجود إدارة لا تعرف ما الذي تريده وكيف التعاطي مع تحديات صينية وروسية وإيرانية في الوقت ذاته تحت هذا العنوان، سقط النظام العراقي الذي اعتمد بعد العام 2003 في ضوء سقوط العراق كلّه تحت الاحتلال الأميركي. لا يهمّ إيران هل يستمرّ النظام أم لا. المهمّ بالنسبة إليها بقاء سيطرتها على العراق في انتظار ما سيحدث مع الإدارة الأميركية. يؤكّد ذلك إعادة “الجمهوريّة الإسلاميّة” تأهيل الإطار التنسيقي وإنزاله إلى الشارع كي تقيم توازنا مع التيار الصدري ومع زعيمه مقتدى الصدر. أسفر نزول الإطار التنسيقي إلى الشارع عن تحييد للتيار الصدري الذي بات عاجزا عن اتخاذ أيّ مبادرة من أي نوع في أي مجال كان. في المقابل، تابع الإطار هجمته مبديا إصراره على تشكيل حكومة جديدة برئاسة محمّد شياع السوداني الذي ليس سوى واجهة لنوري المالكي.
أجلت إيران أي صدام داخلي في العراق. لا يستطيع التيار الصدري أكثر من تعطيل مجلس النواب بعد سحب نوابه منه. في المقابل لا يستطيع الإطار التنسيقي الذهاب إلى ما هو أبعد من التصعيد الكلامي كونه لا يتحمّل مواجهة في الشارع ستعني بين ما تعنيه حربا أهليّة.خلاصة ما يدور في العراق أن إيران تعمل مجددا من أجل تحويله إلى ورقة في يدها في مرحلة في غاية الأهمّية تشهد مزيدا من الضياع أوروبيا وأميركيا. كلّ ما يمكن قوله إن الكرة عادت في الملعب الأميركي وذلك بعد مضي سنة على الانسحاب من أفغانستان. كانت تلك السنة كافية كي تتعلّم الإدارة في واشنطن من الدرس الأفغاني ومن خطورة التخلي عن حلفائها في المنطقة، خصوصا في الخليج. من الواضح، أنّ إدارة بايدن ترفض أن تتعلّم، بل تبدو مستعدّة للسير في السياسة ذاتها التي تقوم على تجاهل أن المشكلة الأساسية مع إيران ليست في ملفّها النووي بمقدار ما أنّها في مشروعها التوسّعي.
لم تكن لهذا المشروع انطلاقة جديدة لولا سقوط العراق في العام 2003 وتسليمه على صحن من فضة إلى “الجمهورية الإسلامية”. جاءت إيران بميليشياتها إلى بغداد بغية الوصول بالبلد إلى ما وصل إليه… أي إلى حياة سياسية معلقة في ظلّ فوضى على كلّ صعيد. تعبّر عن هذه الفوضى، غير الخلاقة، أفضل تعبير التسريبات التي مصدرها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهي تسريبات تتضمن، بكل وضوح، دعوة إلى الرضوخ الكامل لإيران من جهة وما يفتخر به مؤيدو مقتدى الصدر في ما يخص تصدّيه لـ”الاحتلال الأميركي” من جهة أخرى. هل كان للعراق التخلّص يوما من نظام صدّام حسين لولا الحرب الأميركية التي أوصلت، بين من أوصلت، المالكي ومقتدى الصدر وأمثالهما إلى الواجهة السياسيّة في العراق؟
تحاول إيران استعادة المبادرة في العراق حيث بقايا نظام تدافع عنه حكومة مصطفى الكاظمي الذي يبدو يائسا من العثور على مخرج، عبر الحوار، من الأزمة السياسية القائمة. لم تستعد إيران بعد المبادرة في العراق بشكل كامل. ثمّة خلافات بين حلفائها في بغداد. هناك فوق ذلك، الرفض الشعبي لهيمنة “الجمهورية الإسلامية” و”الحرس الثوري” على البلد.
لم تعد المسألة مسألة إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني. السؤال بات مرتبطا بشروط العودة إلى هذا الاتفاق ومستقبل المشروع التوسعي الإيراني الذي بات يحتاج إلى المزيد من المال لدعم ميليشياته المنتشرة في أنحاء المنطقة، بما في ذلك العراق؟بعد مضي سنة على الانسحاب الأميركي من أفغانستان وتسليم البلد إلى “طالبان”، يفترض في الإدارة الأميركية إظهار أنها تعلمت شيئا من الأخطاء التي ارتكبتها والتي كشفتها عودة “القاعدة” إلى كابل. ليس الاستسلام أمام إيران، عبر تجاهل مشروعها التوسعي، سوى استكمال لكارثة الانسحاب من أفغانستان التي كشفت وجود إدارة لا تعرف ما الذي تريده وكيف التعاطي مع تحديات صينية وروسية وإيرانية في الوقت ذاته.