في العراق تم استحضار الحلقات المظلمة من تاريخ الصراع على السلطة الإسلامية بعد وفاة الرسول محمد تحت عنوان لا إنساني “السلطة من خلال الدم” لأن هذا البلد كان موقعاً لأعنف مرحلة دموية قبل 1400 عام.رغم الوجه السياسي المباشر لشراكة واشنطن وطهران في تنفيذ المشروع التدميري للعراق، لكن الأخطر فيه استثمار بشع لخصوصية عقائدية انفرد فيها جزء من أبناء هذا البلد وأصبحت من أحد عناصر إدامة أزماته هي زرع ورعاية “الطائفية الشيعية الولائية” بين أبناء شعب واحد في القرن الحادي والعشرين.الإثم الذي اقترفه الأميركان بحق شعب العراق قبل عشرين عاما، ولا يتوقع هذا الشعب ولا يتأمل من سياسيي واشنطن بجميع عناوينهم الحزبية تصحيحه، لا يكمن في جريمة احتلالهم للبلد بأبشع صوره وإنما في الوصفة المتخلفة اللاعصرية حين سهلوا لمجموعة التشدّد الطائفي الشيعي الإيراني بقيادة الخميني وصولهم إلى السلطة بعد استثمار ثورة شعوب إيران على نظام الشاه وقيادة عملية تغيير ذلك النظام، بعد اقتحام أنصار الخميني للمؤسسات البرلمانية والدستورية بما سمّي المشروعية الثورية بعد تخلي واشنطن كعادتها عن أفضل عميل لها في منطقة الشرق الأوسط، شاه إيران.
مخاطر الإثم الأميركي لم تتوقف عند ذلك الاحتلال العسكري المباشر، بل استمرت في تداعيات دعم وتعزيز مشروع تصدير الثورة الشيعية الخمينية إلى العراق، فقد هيّأ النظام الإيراني وكان من أولى مهماته ليس تقديم الإنجازات والإصلاحات لشعوب إيران وإنما وضع الترتيبات لقيام نظام حكم جديد في العراق تحت العنوان الشيعي بمختلف الأساليب من بينها الحرب.كانت لعبة استثمار المذهب الشيعي غير العربي للهيمنة وإقامة نظام جديد بقيادة وتوجيه ولي الفقيه الشيعي الإيراني في العراق كبيرة، علمت بها واشنطن منذ عام 1979 وشجعتها واشتغلت عليها دوائر وأجهزة مخابرات في كل من واشنطن وباريس وتل أبيب بصيغ وأشكال مختلفة مباشرة وغير مباشرة، دلائلها ومستنداتها الدامغة منشورة وكثيرة. الهدف كان تدمير العراق بعد احتلاله عسكريا وإقامة نظام جديد بقيادة مذهبية شيعية كُتِبَ وفقها الدستور.
القلق الكبير الآن هو داخل مكتب الولي الفقيه الإيراني في طهران ومؤسساته المتغلغلة داخل العراق، من أن تؤدي أزمة السلطة الحالية في بغداد والتنافس بين الفرقاء الشيعة إلى تراجع وهزيمة مشروع الحكم الشيعي الولائيملامح مخطط ولي الفقيه الإيراني الخميني – خامنئي واضحة أمام كثير من رواد الفكر والسياسة العرب والعراقيين، أخطرها تحوير الأمثلة الإنسانية والقيمية العميقة، كالتضحية بالنفس من أجل المبادئ الأصيلة، التي مثلها الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب في أزمة السلطة قبل أكثر من 1400 عام، إلى أدوات سياسية حالية للتجييش العاطفي الطائفي الشيعي وعكسها على الواقع العراقي بعد عام 2003 بخبث سياسي وتجنٍ على وحدة شعب العراق وتطلعه للحياة العصرية المدنية الكريمة.
يقول الخميني في أحد تسجيلاته المصورة “لا تتصوروا أن بالإمكان قيام ثورة الخميني لولا قيام مجالس العزاء ومواكب اللطم والرثاء. مجلس العزاء ليس هدفه البكاء على سيد الشهداء والحصول على الثواب”.الخطر الأكبر الذي هدّد وحدة وكيان شعب العراق التاريخي بعد عام 2003 ذلك النشاط المبرمج المحموم لزرع الطائفية السياسية الشيعية الإيرانية وتنميتها وتقنينها من خلال مجموعة إدارة نظام الحكم الجديد الموالين لطهران، الذين رعتهم واشنطن بقوة من خلال حاكمها المدني بول بريمر وقنّنت لهم دستورا برعاية مرجعية السيستاني بالنجف، وأصبح في ما بعد، وما زال، الوسيلة القانونية والمرجعية لاستمرار الطائفية الشيعية الولائية، وترتيب أوراق استمرار حكم عصابات الفساد ونهب المال العراقي تحت راية الحكم “الشيعي” المزعوم.
اعتمد مكتب ولي الفقيه الإيراني على أدوات عراقية “شيعية” أخطرها كانت مجموعة المعارضين من رجال دين ومدنيين كمنتسبي حزب الدعوة، الهاربين خصوصا بعد اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) التي كان تفجيرها وتواصل نيرانها الخدعة الأولى التي نفّذها التفاهم الأميركي الخميني ضد العراق وكيانه وشعبه قبل خدعة احتلال الكويت 1990.الشغل المكثف لنظام الولي الفقيه لم يكن فقط في دعم وتوجيه معارضة سياسية لبعض الوجوه التي لم تكن لديها مكانة في الحركة الوطنية العراقية، كانوا مجموعة قليلة من “الدعوجية” من قادة وكوادر حزب الدعوة تحولوا بسهولة وبفعل عوامل اللجوء إلى أدوات سياسية بيد طهران التشيّع قبل السياسة، بل لاستثمارهم بعد الوصول للسلطة في بغداد في مشروع “الطائفية الشيعية الولائية” الخبيث.
للحقيقة والتاريخ كما يقال، أصبح هؤلاء المعارضون العراقيون الموالون لطهران، ومعظمهم من المتخلفين في السياسية بطريقة مسرحية دراماتيكية مقننة، قادة يقابلون أكبر مسؤولي البيت الأبيض والبنتاغون الأميركي، بعضهم على سبيل المثال أصبح بعد سنوات من عهد الفساد 2003 من أكبر تجار العقارات في واشنطن، بعد حقبة من العمل كموظف تعقيب عقارات حين كان ممثلا للمجلس الإسلامي الأعلى في لندن، ثم سفيرا للعراق في الأمم المتحدة.
قد لا يستطيع معظم بسطاء الشيعة الخلاص من التنويم المغناطيسي الذي وضعوا بأساليب ماهرة تحت ضغوطه، هم سعداء بجهلهم وغفوتهم، هم في الوقت الحالي كثر في العدد في مناطق الوسط والجنوب العراقي، بل حتى بعد استيطانهم المحافظات الغربية بعد نجاح المشروع الإيراني التخريبي في التأثير على نفوسهم المتعبة، بسبب الإحباط وتأثير قسوة سياسات التجويع والتجهيل لعشرين عاما على حياتهم، حتى وصلت درجة أصبح فيها التعويض بالطقوس الخرافية عن مطالبة حكومة “المذهب” بخبز أطفالهم ممكنا، لأن أصول التماهي والتقرّب من “الولي” علي بن أبي طالب تتطلب مثل هذه التضحية.
أخطر أشكال الممارسات المخزية المتخلفة في مظاهر “اللطم” على كارثة الحسين، هي الفعاليات غير الإنسانية في “التطبير” أي ضرب الرؤوس والأجساد بالسيوف و”القامات”.أخطر أشكال الممارسات المخزية المتخلفة في مظاهر “اللطم” على كارثة الحسين، هي الفعاليات غير الإنسانية في “التطبير” أي ضرب الرؤوس والأجساد بالسيوف و”القامات” روايات تاريخية كثيرة ترجع هذه المظاهر المتخلفة إلى مصادرها الأصلية القادمة من إيران. المؤرخ إسحاق نقاش في كتابه “شيعة العراق”، قال “إن أول من أدخل التسوّط، أي ضرب الجسد بالسلاسل وشق الرؤوس بالسيوف، إلى النجف في العام 1919 هو الحاكم البريطاني الذي خدم سابقا في كرمنشاه ونقل الممارسة إلى العراق عبر الهنود الشيعة بهدف إضعاف الحوزة حينها. وكشفت بريطانيا عن ذلك في العام 1970 في كتاب “دليل الخليج” لمؤلفه ج. لوريمر.
نقل المفكر الإيراني المعتدل علي شريعتي الذي اغتيل عام 1977 في كتابه “التشيّع العلوي والتشيع الصفوي” أن إسماعيل الصفوي حاكم إيران استحدث وزارة خاصة بالشعائر الحسينية، وأرسل وزيرها إلى (القوقاز) للاطلاع على الشعائر الدينية حيث توجد فرقة مسيحية (من الأرثوذوكس) تقوم بالتطبير إحياء ليوم يسمونه “مصائب المسيح” ففكر أنّ هذا ما يجب أن يفعله الشيعة لإحياء “مصائب أهل البيت عليهم السلام” وبالخصوص (ذكرى عاشوراء) ودرس إمكانية نقل هذا الطقس إلى إيران.مشروع إدامة الصراع الطائفي في العراق ظل متقدما رغم مظاهر الصراع الحالي بين فريقين سياسيين شيعيين، أحدهما مصرّ على عدم الخروج من العباءة العقائدية الإيرانية “الإطار التنسيقي”، والثاني “التيار الصدري” يدعو إلى التحرّر من هذا الضغط ولو بنسب محدودة حيث خلّف ومازال أضرارا كبيرة في حياة العراقيين.
القلق الكبير الآن هو داخل مكتب الولي الفقيه الإيراني في طهران ومؤسساته المتغلغلة داخل العراق، من أن تؤدي أزمة السلطة الحالية في بغداد والتنافس بين الفرقاء الشيعة إلى تراجع وهزيمة مشروع الحكم الشيعي الولائي وانتصار ثورة شعب العراق بهويته الوطنية العامة، لهذا السبب يضغط مندوب مكتب خامنئي قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني على أدوات إيران في الإطار لإبداء مرونة عالية محسوبة الخسائر مع الصدر لتجاوز مرحلة حافية الهاوية.مهما كانت الآثار السياسة والاقتصادية لنظام الحكم الحالي في بغداد مدمرة لحياة شعب العراق، إلا أن الأخطار الاجتماعية والإنسانية التي تخلفها تطبيقات الطائفية الشيعية الولائية التي لا علاقة لها بأصل فكرة التشيّع، رغم أنها قضية تاريخية، ينبغي إبعادها عن السياسة وإبقاؤها محصورة داخل الحسينيات الشيعية.
مثلّت ثورة أكتوبر 2019 المثال الواقعي الحقيقي على رفض شعب العراق للطائفية الشيعية الولائية، وطبعا إلى جانبها الطائفية السنية المتطرفة. قد تصبح ثورة شعبية يقودها مقتدى الصدر على المسرح السياسي، رغم شكوك الكثيرين بمواصلته لهذه الثورة السياسية، فيما إذا تمكنت مع القوى العراقية الأخرى من خارج البيت الشيعي من تأسيس نظام سياسي جديد فيه قدر من المواجهة الفعلية لمخاطر هيمنة الطائفية السياسية على منهج الحكم والنظام القائم.