من المتفق عليه أن تحالف (إنقاذ وطن) بين التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف سيادة السني لم يقم على أساس المباديء والقيم والمصالح الوطنية الخالصة، بقدر ما كان لقاء سياسيين جمعتهم المناصب والمكاسب الحزبية والشخصية حسب ما أثبت الواقع السياسي المر في العراق. فليس حزب مسعود هو الممثل الشرعي الوحيد لكرد العراق والمنتخب بحرية وشعبية ليحقق مصالح المواطن الكردي الحياتية والدستورية والقومية الملحة. كما أن محمد الحلبوسي هو الآخر ليس الذي رفعته طائفته السنية إلى موقع القيادة ليدافع عنها وعن حقوقها باختيار حر ونزيه. ومقتدى الصدر، كما هو معروف، لا يمثل إلا جانبا ضيقا من الشارع الشيعي العراقي، وأغلب أتباعه مسحورون بهيبة والده المرجع الديني وأسرته، فقط لا غير، ولأنه كان تحالف مصالح سياسية وانتخابية غير دائمة فقد كان من المتوقع أن يختل توازنه بسرعة، وتتهاوى جدرانه بأقرب عاصفة تهب عليه، وهذا هو الذي كان.
فبعد تسعة أشهر من المماطلة والمشاكسة تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في العراق، أخيرا، وظهر الهيكل المقرر للدولة العراقية القادمة، بعد أن اضطر الحليفان الكردي والسني إلى الخروج من ساقية الحليف الضعيف إلى بحر الحليف القوي الجديد الذي بيده الحكومة والبرلمان والشعب والجيش والمال والنفط والدفاع والحشد الشعبي.
والثابت في نظام المحاصصة القائم منذ الغزو الأمريكي 2003، ووريثه الاحتلال الإيراني، أن أكراد العملية السياسية وسنّتَها ليسوا سوى واجهات استعراضية تحتاجها إيران لاستكمال الديكور الداخلي للنظام. فلا قرار لهم ولا شأن سوى المقسوم من المكاسب والمناصب والرواتب، بشرط أن يعرف الكبير منهم والصغير حدَّه فيقف عنده، ولا يمس العصب الحساس من دولة الحرس الثوري الإيراني المتجددة.
وأخيرا، تأكد لهما، بسهولة، أن الحليف الصدري لا يملك القوة الفكرية والنفسية والسياسية والعسكرية التي تجعله قادرا على منحهم حصصا أكبر من المقرر لها.
ورغم أنها تعمَّدا ذرَّ رمادٍ في عينيْ مقتدى بقولهما بأنهما لن يقبلا المشاركة في حكومة توافقية بدون ترضية الحليف الصدري، إلا أنهما يعلمان بأنه، بحكم تكوينه الديني والعائلي والمليشياوي، لن يرضى بالاعتراف بالهزيمة أمام خصومه الإطاريين، وبالتالي لن يشارك في حكومتهم، على الأقل أمام أتباعه المؤمنين بقوته وجبروته.
وقد تدفعه كرامته الجريحة إلى تحريك جمهوره الصدري لعرقلة انعقاد البرلمان وانتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة، وهو ما لا يؤيدانه ولا يوافقان عليه لما قد يسببه لهما من خسارة لا مبرر لها. رغم علمهما بأن هذا السلاح لم يعد فاعلا كما كان في المعركة السابقة. فقد أدركت الحكومة التي اتهمها الإطاريون بمحاباة التياريين أن الرياح لم تعد رياح التيار الواعدة كما كانت في السابق. ولكي تثبت لهم أنها محايدة وغير منتمية أو منحازة لمقتدى فقد اخترعت حكاية الأبواب الحديدية الضخمة المُحكمة على الجسور المؤدية إلى المنطقة الخضراء، والتي لن يستطيع المتظاهرون نزعها والعبور على أنقاضها كما فعلوا في المرة السابقة.
وتشير دلائل متعدد إلى أن (الحزب الديمقراطي الكردستاني) لصاحبه مسعود البرزاني قد أدرك أن غريمه (الاتحاد الوطني الكردستاني) لم يعد الأضعف في كردستان، بعد انتصر حلفاؤه الإطاريون في معركة النفوذ. فقد راح يخفف من عناده ويتخلى عن إصراره على انتزاع رئاسة الجمهورية من حصة السليمانية، ومنحها لأربيل، وأصبح أقرب إلى القبول بالتجديد للدكتور برهم صالح، ولو على مضض.
وليس هذا وحسب. فلم يكفِ الحزب الديمقراطي الكرديتاني بانقلابه المفاجيء على حليفه زعيم مقتدى، بل هاجمه علنا وبالقلم العريض.فقد صرح القيادي في الحزب، هيثم المياحي، في حوار تلفزيوني بأن “الحزب لا يسير بأوامر أحد حتى لو كان السيد الصدر”، متسائلا “اين تأثير السيد الصدر الآن لكي يطالب الآخرين بالانسحاب؟“.
وأضاف قائلا، إن “السيد الصدر فاجأ حلفاءه بالاستقالة، كما هي عادته”، وقد “كان على السيد الصدر إطلاع حلفائه على المخطط الذي كان يريد العمل به“.
وكما اكتشف الحليفان تناقص قوة مقتدى السياسية والعسكرية، وسارعا إلى نفض أيديهم من التحالف معه، فإن على المتفائلين العراقيين والعرب والأميركيين والأوروبيين الذين نفخوا في صورة مقتدى وظنوه حصان طروادة الممكن أن يكسر شوكة الوجود الإيراني في العراق أن يعترفوا بأخطائهم في تقدير قوته الحقيقية، ويتأكدوا عزلته حتى عن حاضنته الشيعية ذاتها.
فالعراق، وخصوصا في المشاكسات المتصاعدة بين إيران وأعدائها وخصومها الكثيرين في المنطقة والعالم، هو الحلقة المركزية التي لا مستقبل لهلالها الشيعي الممتد من طهران إلى سوريا ولبنان بدون موقعه وثرواته التي لا تملك غيرها لإعانتها على مواجهة العقوبات الأمريكية التي أنقضت ظهرها.
وقد اعتاد الكثيرون من قادة النظام الإيراني، وأولهم المرشد الأعلى علي خامنئي، على التصريح العلني بأن حروب إيران خارج أرضها هي لمنع خوضها داخل حدودها.
ومقتدى نفسُه مدرك لهذه الحقيقة بدون شك. ويعلم، أيضا في الوقت نفسه، بأن المخابرات الإيرانية ليست غبية لتتركه حرا في حله وترحاله، ولا تدسَّ على جيوش حمايته وحرسه الخاص عناصر من طوابيرها النائمة، أسوة بما تفعله مع باقي السياسيين العراقيين الكبار الآخرين.
نعم، إنه أكثر وطنيةً عراقية من باقي رفاقه العراقيين العاملين تحت الخيمة الإيرانية، نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وعمار الحكيم، ولكن وطنيته تلك لا تؤهله ليكون المتمرد الحقيقي والنهائي على إرادة النظام الإيراني ووجوده في العراق والمنطقة.ولا أدل على فرح الإيرانيين بانهيار تحالف (إنقاذ وطن) من الترحيب الساخن الذي سارعت أطراف الإطار التنسيقي إلى إعلانه، عبر تعليقات إعلامية وتلفزيونية، بعودة كُرد الحكومة وسنّتها إلى السراط المستقيم.