أخبار الدبلوماسي العراقي الذي كان يتابع مباراة لكرة القدم أثناء مشاركته في جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة تستحق الاهتمام لما تنطوي عليه من فكاهة وهزل وخفة، وفي المقابل فإن ما حدث يستدعي رثاء دولة ضائعة، كانت يوما ما محل احترام وتقدير في ذلك المكان بالتحديد حيث كان العراق واحدا من الدول المؤسسة لتلك المؤسسة العالمية.أستعيد صورة محمد فاضل الجمالي وهو يوقع على ميثاق الأمم المتحدة عام 1945. كانت صورة الدبلوماسي العراقي مشعة ومهابة حتى في أسوأ الأوقات. فحين قفزت الأحزاب إلى السلطة بعد سقوط العهد الملكي عام 1958 عبثت نسبيا في مناصب كثيرة غير أن منصب وزير الخارجية لم يتعرض كثيرا للعبث وظل مصانا.كان للدبلوماسية أصولها وقواعدها وشروطها فكان السفراء يعينون وفق شروط صارمة وكان السلك الدبلوماسي غير قابل للاختراق إلا في حالات نادرة لا تعرضه للفضيحة ولا تكشف عن عيوبه. لذلك كان الدبلوماسيون العراقيون حريصين على التستر على حياتهم الشخصية وسلوك أفراد عوائلهم. كان من الصعب على الدبلوماسي العراقي أن يكون متاحا في الأماكن العامة.
أما بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 وانهيار الدولة العراقية فقد صارت فضائح الدبلوماسية العراقية على كل لسان وفي كل مكان. فلا وزراء الخارجية هم أهل لمناصبهم ولا السفراء يستحقون أن يمثلوا بلدا يحترم نفسه ولا الدبلوماسيون هم بحجم ما تجلبه جوازاتهم لهم من تقدير وامتيازات عن سواهم من المسافرين. كانت هناك وظائف شاغرة صارت الأحزاب توزعها في ما بينها في سياق نظام المحاصصة. فلكل حزب سفراؤه ودبلوماسيوه من غير العودة إلى شروط وقواعد العمل الدبلوماسي التي لم يعد لها وجود.حُذفت الدولة العراقية فحُذف كل شيء يمكن أن يقدمها أمام العالم بطريقة محترمة. حين كان هوشيار زيباري وزيرا للخارجية تحولت سفارات عراقية إلى أوكار للحزب الديمقراطي الكردستاني. ذهبت إلى إحدى تلك السفارات ذات مرة فصُدمت بالعلم الكردي مرفوعا ولم يكن هناك مَن يتكلم العربية. أما كيف يدير سفير وقد كان انتقل من مطعم كباب إلى السفارة عمله وعلاقة العراق بالدولة التي يعمل فيها فذلك واحد من أعظم الألغاز. لا يقع مطعمه بعيدا عن السفارة وليس بعيدا أن يكون مراجعو السفارة هم من زبائن مطعمه الذي لم يغلق أبوابه.لا يمكن تسمية كل ذلك سوى بالفساد.
لقد انتشرت أفلام فيديو لسفراء عراقيين يرقصون بملابس بيتية في حفلات يقيمونها لضيوفهم. لا أحد يدري ما الذي فعلته وزارة الخارجية العراقية لسفيرها في الأردن الذي نُشرت له صور غير لائقة وهو يستقبل المطرب اللبناني راغب علامة. لنتخيل الحدث. سفير دولة يقيم مأدبة عشاء لمطرب في بيته. حدث يقع خارج العرف الدبلوماسي. يمكن أن يفعلها السفير لمطرب شهير من دولته. لكن أن يكون ذلك المطرب من دولة أخرى فذلك حدث غير مسبوق. من المؤكد أن ذلك السفير لم يتعرف على شيء من قواعد الدبلوماسية.
لقد اُنتهكت الأعراف والأصول والقواعد فيها. ذلك الرجل الذي أُتيحت له فرصة الدخول إلى مبنى الجمعية العامة للأمم المتحدة ليتابع مباراة كرة القدم، هل كان يحلم بزيارة نيويورك في حياته؟ نكرة لم تذكر الأخبار اسمه ولا تحتاج إلى القيام بذلك. فعلته تستدعي الضحك بالنسبة إلى الآخرين غير أنها تبكي العراقيين. إنها دليل آخر على هوانهم وذلهم ومهانتهم وتمكن الأحزاب الدينية منهم وضياع هيبة وطنهم الذي صار ممثلوه لا قيمة لهم.
لا يُسعد العراقيون بأخبار من هذا النوع.
تلك أخبار تكشف عما يمكن أن تؤدي إليه منظومة الفساد من مهازل ونكبات. ذلك صحيح غير أنها في الوقت نفسه تضع العراقي أمام الصورة التي انتهى إليها في مرآة العالم. ما معنى أن يقول “لست أنا”؟ الدبلوماسية العراقية هي مرآة لما يجري في الداخل العراقي. هي العراق كما هو الآن. لا كما كان. لقد انتهى عصر محمد فاضل الجمالي إلى غير رجعة. كان هناك عراقيون يمثلون العراق بكل هيبة واحترام. لذلك حرصوا على أن يكونوا محترمين. أما الآن فلا شيء يدعو إلى أن يمسك المرء نفسه. ليس هناك وراءه بلد محترم.لم يتعرف أحد على نتيجة تلك المباراة التي كان يتابعها الدبلوماسي العراقي غير أن خسارة العراق كانت واضحة.