الصدريون والرومانسيون الوطنيون والباحثون عن التوظيف عند أحزاب العملية السياسية أو الذين يحاولون بشق الأنفس اللحاق بالطريق إلى العملية السياسية، يتعاركون من أجل الحصول على ميدالية انتفاضة تشرين/أكتوبر، خاصة هذا العام إذ تمر الذكرى الثالثة عليها.
شاشات الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي تمتلئ بالمزايدات السياسية لسرقة روح انتفاضة تشرين. فالضجيج الإعلامي والسياسي حول الذكرى الثالثة لانتفاضة أكتوبر لهذا العام ليس هدفه التعلم من دروس الانتفاضة، ولا استخلاص العبر منها، ولا التساؤل حول عدم وصول الانتفاضة إلى محطتها النهائية، ولا كيف وأين تمت المقايضة بين التيار الصدري وميليشياته في تقديم رأس الانتفاضة إلى إخوته التوائم في سلطة الإسلام السياسي الموالية لإيران مقابل تنصيب مصطفى الكاظمي الموالي للصدر في سدة رئاسة الوزراء.
بمعنى آخر هناك “تهاوش” على ذكرى انتفاضة أكتوبر بين القوى السياسية لتجيير مطالبها والتضحيات العظيمة التي قدمتها من أرواح المئات من الشباب، في الوقت، الذي لم يكن أحد من تلك القوى على علاقة لا من قريب ولا من بعيد بأهداف انتفاضة أكتوبر ولا بالقوى الاجتماعية التي أشعلتها.
وعبر المزايدة السياسية على ذكرى انتفاضة أكتوبر، هناك مساعٍ حثيثة تكمن في محاولة تعبيد الطرق من أجل الاستعداد لسيناريو حل البرلمان والانتخابات المبكرة، وكل واحدة من تلك القوى تحاول جر أكبر قدر من الجمهور لها، عبر خداعه وذر الرماد في عيونه، مثلما فعلت إشراقة كانون، وحركة امتداد، وشخصيات مثل باسم الخشان الذين كانوا بمجموعهم ظلا مخادعا وانتهازيا بامتياز، ومتملقاً لجماعة المالكي والتيار الصدري والكاظمي والمرجعية الدينية وغيرها، وكل واحد من أولئك الذين شدوا رحالهم وحطوا في أحضان سلطة الميليشيات ليرفع من سعره، كان يجر بتلابيب الانتفاضة.
وأكثر التصريحات التي تثير السخرية ممن يلقبون أنفسهم بـ”المستقلين” هو ما أدلى به علاء الركابي عندما كان رئيسا لحركة امتداد حيث قال إنه مستعد للتعاون مع الفاسدين إذا كان ذلك في مصلحة العراق، فهل هناك تصريح أكثر سخرية ممّا قاله الركابي!
وهنا يعلو اسم العراق الذي أصبح أكثر السلع رواجا بالمزايدة عليها في سوق الدعاية السياسية، وهو عنوان لكل من أراد أن يسرق من جغرافية العراق، ويعقد الصفقات السياسية التي تدر أرباحاً مالية كبيرة مع حكومات المنطقة، وهو يعرض عمالته السافرة لها، ويغض الطرف عن كل عمليات القصف والحملات العسكرية التي يدفع ثمنها الأبرياء من المدنيين.
والرومانسيون الوطنيون الذين يخرون خاشعين عندما يسمعون باسم العراق، ونصبوا خيامهم باسم العراق، ويملأون الفضائيات العراقية وشبكات التواصل الاجتماعي بأنهم عراقيون وطنيون، ولا يشغل بالهم كما يدّعون سوى العراق ومصلحة العراق، ويتبادلون التخوين فيما بينهم، وينشرون غسيل بعضهم، سواء كان نظيفا أو قذرا على الملأ، لإثبات وطنية بعضهم البعض للعراق أو خيانتهم، نقول هؤلاء هم أكثر الذين ضاعت بوصلتهم، وأكثر الذين ينثرون الرماد في عيون الجماهير عبر تنقلهم بين خنادق القوى السياسية في العملية السياسية، أو بتحولهم إلى أبواق لها.
إن معضلة هؤلاء الرومانسيين الوطنيين الحالمين بـ”جنة وطنية سماوية” يقدسون الانتماء إلى أنفسهم وإلى أذهانهم وإلى عبادة نرجسيتهم ومزاجيتهم، ولا يؤمنون إلا بقدراتهم ــ غير الخارقة ــ وتجربتهم الفقيرة خالية الدسم. وهم دائما كانوا ــ ليس في انتفاضة أكتوبر فحسب، بل في كل الثورات والانتفاضات على صعيد العالم ــ يلعبون دورا في تخريب الثورات والانتفاضات، بمعنى آخر إنهم إمّا أن يكونوا ذخيرة حية ووقودا للتيار الشعبوي في المجتمع، مثلما ذهب قسم منهم خلف التيار الصدري ليوجد معه في المنطقة الخضراء، وبلع الطعم من جديد لأن التيار خدعهم بتبني شعارات “وطنية”، في حين تمثّل القسم الآخر بأحزاب بورجوازية صغيرة أو أفراد يتبنون نثر الأوهام في المجتمع.
ليس في قاموسنا تقديس للانتفاضات والثورات، ويجب القول بأنَّ انتفاضة أكتوبر لم تصل إلى محطتها النهائية، ومن الوهم أن نتصور بأنَّها من الممكن أن تعاد بنفس السيناريو والشخوص والأحداث التي تسلسلت في عام 2019 إلا بشكله الهزلي كما يقول ماركس.
إن اندلاع شرارة الثورات والانتفاضات خارجة عن الإرادة الفردية للبشر، ولكن دفعها للوصول إلى تحقيق أهدافها هي من صنع صراع الطبقات الاجتماعية والحركات الاجتماعية وأحزابها السياسية، وإن ما أحدثته انتفاضة أكتوبر كان بمثابة زلزال كبير هزَّ المفاهيم الاجتماعية والسياسية، وأسدل الستار عن فصل تاريخي في حياة المجتمع العراقي، إذ وخلال أكثر من ثلاثة أرباع القرن، لم تمر أيّ عاصفة ثورية وبقوة مثلما مرّت عاصفة انتفاضة أكتوبر بالعراق، وأسقطت واحدة من أكثر الحكومات رجعيةً وإجراماً، مدعومة بكل قوة من قبل الحرس الثوري الإيراني، والميليشيات المدججة بالسلاح والممولة من سرقة ثروات العمال والكادحين عبر عمليات النهب والسلب والفساد.
إن انتفاضة أكتوبر تركت أثرا اجتماعيا وسياسيا في عمق وجدان المجتمع العراقي، غيرت من روحيته، كما وستتعمق تلك الآثار بشكلها الإيجابي مع السنوات، وإن كل التهليل والتطبيل بإحياء مناسبة المناسبات الدينية مثل أربعينية الحسين، وبالتعاون والتنسيق بين السلطة وكل قوى الإسلام السياسي (بمالكيه وعامريه وخزعليه وفياضه وحكيمه وصدريه)، وبذخ الأموال المنهوبة من جيوبنا نحن العمال والموظفين والعاطلين عن العمل، على هذه المناسبة، والمبالغة بأرقام المشاركين إلى حد التزوير والكذب بأن 21 مليون شخص شاركوا فيها، كانت محاولة فاشلة لإعادة عقارب المجتمع العراقي إلى الوراء، إلى ما قبل انتفاضة أكتوبر.
لقد وضعت قوى الإسلام السياسي المتصارعة على السلطة خلافاتها جانبا، وعملت بجهد على تسويق تصور عن المجتمع العراقي عبر إحياء مناسبة الأربعينية على سبيل المثال، بأن الشيعة هم الأكثرية، ولهم الحق في السلطة، وإنَّ كل ما مزقته الانتفاضة لصورة الإسلام السياسي التي أكدت على أنَّ المدنية والعلمانية والتحضر واليسار بشكل عام متجذرة في أعماق المجتمع في العراق، والإعلان عن سقوط كل أوراق الطائفية والدينية، ليس لها أيّ أساس.
وفي الوقت ذاته أعادت انتفاضة أكتوبر الاقتدار إلى الفرد بنفس القدر والاقتدار والثقة إلى المجموع، وأسقط الخوف والرعب الذي حاولت ميليشيات الإسلام السياسي ترسيخه في بنية المجتمع، فمن عاش أو شارك أو شاهد من على شاشات الفضائيات مواجهة قناصة الميليشيات وهراواتهم وسكاكينهم بصدور عارية، يدرك أيّ روحية خلقتها الانتفاضة في صفوف جماهير العراق.
هذه الروحية التي سادت في انتفاضة أكتوبر هي التي ترعب سلطة الإسلام السياسي، وهي وراء مقاطعة النسبة العظيمة من جماهير العراق لانتخابات أكتوبر عام 2021 التي حاولت حكومة الكاظمي ومن ورائها التيار الصدري باختزال الانتفاضة بالانتخابات المبكرة والقفز على كل مطالبها العادلة، وهذا بالضبط ما يحاول التيار الصدري اللعب على أوتاره، إلى جانب قوى أخرى أبدت ندمها على مقاطعتها للانتخابات، والاستفادة من الوقت الضائع عبر المزايدة السياسية على الانتفاضة للحاق بالركب “المؤمن” في العملية السياسية.
إن الدرس الآخر الذي يجب على الجماهير أنَّ تتعلمه، من انتفاضة أكتوبر، هو البناء على الروحية التي خلقتها انتفاضة أكتوبر، وهو الجسارة الثورية وأن تمد يدها للسلطة السياسية، وعدم الانخداع والتوهم بالترهات التي ينثرها الرومانسيون الوطنيون هنا وهناك، وجر الجماهير دائما إلى خندق القوى الرجعية المعادية لتطلعات العمال والنساء والطلبة والعاطلين عن العمل في تحقيق الحرية والمساواة والرفاه.