تبدو خطوة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي المتمثلة بزيارة أربيل خطوة شجاعة في هذه الظروف الدقيقة التي يمرّ فيها هذا البلد المهم، بل أحد أهمّ بلدان المنطقة. تثبت هذه الخطوة أنّ الكاظمي، على الرغم من أنّ حكومته في وضع الحكومة المستقيلة، مصرّ على أن يكون رئيسا للوزراء لكلّ العراق وكلّ العراقيين.يظلّ أهمّ ما في الزيارة، التي تضمنت لقاء مع الزعيم الكردي مسعود بارزاني، توقيتها. تأتي الزيارة فيما “الحرس الثوري” الإيراني مصمّم على متابعة قصف إقليم كردستان في العراق، ومحافظة أربيل تحديدا، من أجل التغطية على الأحداث التي تشهدها “الجمهوريّة الإسلاميّة”. تعتبر هذه الأحداث الأكثر اتساعا من نوعها منذ قيام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في العام 1979.
ليس اضطرار “المرشد” علي خامنئي إلى الإدلاء بدلوه والحديث مباشرة عن قتل شرطة الأخلاق للفتاة مهسا أميني سوى دليل على مدى خطورة الوضع في البلد. من الواضح أنّ خامنئي ما كان ليتطرّق إلى الأمر لولا إدراكه أنّ الانتفاضة الشعبيّة التي تقودها المرأة الإيرانية في غاية الجدّية.
لا شكّ أن شخصا مثل مصطفى الكاظمي يعرف تماما ما على المحكّ. يعرف خصوصا معنى زيارة أربيل في هذه الظروف بالذات في وقت يقول فيه رئيس الأركان الإيراني محمّد باقري إن إيران “تحتفظ بحق المواجهة والانتقام”، مؤكداً أن القوات المسلحة الإيرانية “تمتلك معلومات كاملة ودقيقة عن قواعد حرير وأربيل ودهوك الأميركية في العراق (…) إذا تحرك الأميركيون ضد الطائرات الإيرانية المسيرة فإنّ القوات المسلحة الإيرانية سترد على هذا العمل العدائي”.
من هنا تبدو زيارة الكاظمي إشارة إلى وجود حسابات عراقيّة داخليّة منفصلة إلى حدّ كبير عن الحسابات الإيرانيّة. تعكس الزيارة رغبة عراقية في معالجة الوضع الداخلي العراقي بعيدا عن طموحات “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي ترى في العراق مجرّد جرم يدور في الفلك الإيراني… على غرار لبنان واليمن الشمالي الذي يسيطر عليه الحوثيون ومناطق سوريّة معيّنة، بينها دمشق، الواقعة تحت السيطرة المباشرة لـ”الحرس الثوري” وميليشياته المذهبيّة.
في ظلّ هذه المعطيات، يمكن التساؤل هل ينجح الكاظمي في تحقيق مكاسب عراقيّة من زيارته إلى كردستان ولقاء مسعود بارزاني؟ قد يكون السؤال الأكثر دقة: هل مسموح له بتحقيق أي مكاسب في ظلّ وضع داخلي عراقي في غاية التعقيد والخطورة في الوقت ذاته؟يبقى أنّ إصرار رئيس الوزراء العراقي على الذهاب إلى أربيل تعبير عن وضع مصالح العراق فوق أي مصالح أخرى بعيدا عن العداء لإيران بكلّ ما تمثله. لكن اللافت في الأمر غياب أي توجه إيراني للتعاطي مع الواقع العراقي، كما هو، وأخذ العلم بأن أكثرية المواطنين في هذا البلد ترفض فكرة الوصاية الإيرانيّة.
سيظل الوضع في العراق في غاية السوء مع مضي سنة كاملة على الانتخابات التشريعيّة، التي أجريت في تشرين الأوّل – أكتوبر 2021. كانت تلك الانتخابات التي شهد العالم على شفافيتها نقطة تسجل في مصلحة حكومة مصطفى الكاظمي. لكنّه منذ الانتخابات التي خرج منها التيار الصدري منتصرا، فيما لحقت خسارة بالأحزاب الموالية لإيران، ما زال العراق يتخبّط في مشاكله ولا يزال مصطفى الكاظمي يحاول الترقيع. الأكيد أنّ ليس في إمكان أي بلد في العالم العيش على سياسة الترقيع. تعني هذه السياسة بين ما تعنيه عجزا لدى الأحزاب السياسيّة عن الاعتراف بوجود أزمة اسمها أزمة نظام وضع أصلا، بإشراف أميركي، كي ينتقل العراق من أزمة إلى أخرى.
لا حلول في الأفق العراقي، لكن من المفيد الدور الذي يلعبه مصطفى الكاظمي بكلّ جرأة في سياق تأكيده وجود لحمة بين العراقيين. إنّه يؤكّد في الوقت ذاته إصرارا على التضامن مع المكوّن الكردي من جهة وأن حكومته، على الرغم من أنّها مستقيلة، تبقى حكومة كلّ العراقيين.
أظهرت السنة التي مرّت منذ حصول الانتخابات أنّ أزمة العراق معقدة. ليست أزمة ناجمة عن نظام قائم على المحاصصة الطائفيّة والمذهبية والمناطقية والقوميّة فحسب، بل أظهرت أيضا وجود ضغط إيراني يستهدف التحكم بمصير البلد. لذلك، لا رئيس جديدا للجمهوريّة العراقيّة بعد انتهاء ولاية برهم صالح ولا حكومة جديدة كان مفترضا أن تتشكل في ضوء الانتخابات.فوق ذلك كلّه، ثمة تعديات يوميّة تمارسها ميليشيات “الحشد الشعبي” على مؤسسات الدولة وعلى الناس، وهي ميليشيات تابعة لإيران. باتت هذه الميليشيات جزءا من الدولة العراقيّة، وهي دولة حائرة من أمرها. ما يجعلها حائرة عدم حصرية السلاح بها، بقواتها المسلّحة وحدها.
ما لم يعد ممكنا الهرب منه أنّ الوضع العراقي صار أسير الوضع الإيراني. لا يمكن توقع أي انفراج في العراق من دون توقف النظام الإيراني عن ممارسة الدور الوحيد الذي يتقن ممارسته، وهو دور تصدير أزماته إلى خارج حدوده. بكلام أوضح، لا يمكن للوضع العراقي أن يتحسّن من دون تغيير في إيران. هل يحصل هذا التغيير قريبا؟يصعب التكهّن بذلك، لكن الثابت أنّ التغيير في العراق صار مرتبطا بتغيير في إيران. ما يدعو إلى بعض التفاؤل تلك العلاقة الوثيقة التي تتكشف يوما بعد يوم بين نظام الملالي في إيران من جهة والنظام الروسي من جهة أخرى. لم يكن فلاديمير بوتين، الذي يعيش حاليا أسوأ أيّامه، بعيدا عن “الجمهوريّة الإسلاميّة” في أي مرحلة من المراحل. يثبت ذلك أنّه كلّما وجدت إيران نفسها في ورطة، هبّ الرئيس الروسي إلى مساعدتها ودعمها. حدث ذلك في سوريا قبل سبع سنوات. عندما لم تعد “الجمهوريّة الإسلاميّة” قادرة، مع ميليشياتها، على حماية النظام الأقلّوي الذي على رأسه بشّار الأسد، سارع الرئيس الروسي إلى إرسال طائراته إلى الساحل السوري.في انتظار تبلور الوضع في إيران، ليس أمام مصطفى الكاظمي غير الترقيع. الأكيد أن ذلك أفضل ما يستطيع عمله في هذه المرحلة العصيبة التي تمر فيها المنطقة والعالم… ربّما كان الوقت يعمل لمصلحته ومصلحة العراق الذي يسعى لإنقاذه.