قبل سنة، أجريت الانتخابات العراقيّة. بعد سنة يتبيّن أنّ تلك الانتخابات لم تكن سوى خطوة أخرى في سياق تعميق الأزمة السياسية العراقية، وهي أزمة يتأكّد كلّ يوم كم هي معقدة وكم تتجاوز العراق من جهة وكم أنّ المطروح مستقبل البلد وموقعه الإقليمي من جهة أخرى.تجاوزت الأزمة موضوع النظام لتصبح أزمة العراق، كبلد ذي موقع في غاية الأهمّية على صعيد التوازن الإقليمي. كذلك، تجاوزت الأزمة العراق نفسه لتطرح مسألة في غاية الخطورة مرتبطة بالدور الإيراني في العراق وفي المنطقة ومدى استعداد قوة عظمى مثل الولايات المتحدة لاستيعاب ذلك؟
إذا عدنا إلى الخلف قليلا، نكتشف أن في أساس الانسداد السياسي الكامل في العراق ذلك القرار العبثي الذي اتخذته إدارة جورج بوش الابن. شنت أميركا في العام 2003 حربا انتهت بإسقاط النظام العراقي الذي كان على رأسه صدّام حسين، وهو شخص لا يمكن الدفاع عنه وعن تصرفاته بأيّ شكل.
يظلّ الموقف من صدّام ونظامه شيئا، والنتائج التي ترتبت على إزاحته والظروف التي أحاطت بتلك الإزاحة شيئا آخر. لم تدرك الإدارة الأميركيّة معنى تسليم العراق على صحن من فضّة إلى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. ليس ما نشهده اليوم سوى ترجمة دقيقة على أرض الواقع للقرار الذي اتخذته إدارة بوش الابن والقاضي بالربط بين النظام في العراق وجريمة ما يسمّى “غزوة واشنطن ونيويورك” في الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001. ليس سرّا من كان وراء تلك الجريمة التي ارتكبها تنظيم “القاعدة” بقيادة الإرهابي أسامة بن لادن. ليس سرّا أيضا أنّه لم تكن من علاقة للنظام العراقي بما تعرّضت له واشنطن ونيويورك. على العكس من ذلك، فور معرفة صدّام حسين أنّ عضوا في جماعة المنشق الفلسطيني صبري البنا (أبونضال)، هو اللبناني زياد الجراح، شارك في “غزوة واشنطن ونيويورك”، سارع إلى التخلص من “أبونضال” الذي كان مقيما وقتذاك في بغداد!
بعد سنة من إجراء حكومة مصطفى الكاظمي الانتخابات العراقية التي فازت فيها جماعة مقتدى الصدر، لا وجود لحكومة عراقيّة ولا وجود لرئيس جديد للجمهوريّة يخلف برهم صالح أو يعيد انتخابه رئيسا. لا قرار سياسيا للحكومة على أي مستوى من المستويات باستثناء المبادرات الشخصيّة للكاظمي بين حين وآخر. من بين هذه المبادرات الشجاعة زيارته إلى أربيل بعد تعرض كردستان العراق لقصف إيراني.
عبثا يدعو الكاظمي إلى حوار سياسي بين القوى السياسيّة العراقية. لا مجال لمثل هذا الحوار في ضوء انعكاسات الأزمة الإيرانيّة على الداخل العراقي، وذلك بعدما ظهر بوضوح، ليس بعده وضوح، أن “الجمهوريّة الإسلاميّة” عاجزة عن التحكّم باللعبة السياسيّة في العراق، كما في أيّام قاسم سليماني. أكثر من ذلك، يظهر بين حين وآخر رفض شعبي عراقي للهيمنة الإيرانيّة بكلّ أشكالها.
في غياب القدرة لدى إيران على التحكّم بالعراق، ليس أمامها سوى الاستثمار في المزيد من التعطيل في البلد مستخدمة ميليشياتها والقوى السياسيّة الموالية لها، وهي قوى جاءت من طهران إلى بغداد على دبابة أميركيّة.لم تعد الأزمة العراقيّة أزمة عراقيّة بحتة. صارت أزمة إيرانيّة أيضا. كيف لنظام ذي تجربة فاشلة على كلّ صعيد، نظام مرفوض من الإيرانيين بأكثريتهم الساحقة، أن ينقل تجربته إلى العراق. المؤسف أنّه استطاع ذلك. أي استطاع نقل تجربته الفاشلة إلى العراق. كانت النتيجة ما نراه حاليا في كلّ أنحاء بلاد الرافدين حيث يسعى “الحشد الشعبي” للعب دور “الحرس الثوري” في إيران.
سيبقى احتلال الأميركيين للعراق وسقوطه في يد إيران الحدث الأهم في منطقة الشرق الأوسط والخليج في السنوات العشرين الأخيرة. لا وجود لعذر للإدارات الأميركيّة منذ العام 2003. كان باراك أوباما أسوأ من بوش الابن في تعاطيه مع الموضوع العراقي حين قبل الدخول في صفقة مع إيران في العام 2010. أدت تلك الصفقة إلى تشكيل حكومة عراقيّة، موالية لإيران، برئاسة نوري المالكي تمهيدا لانسحاب عسكري أميركي من العراق في العام 2011.
في ضوء الانشغال الأميركي بما يدور في أوكرانيا التي تتعرّض لحملة عسكريّة روسيّة تشكل تهديدا لكلّ أوروبا، من الصعب إقناع الإدارة الأميركيّة الحالية بتخصيص المزيد من الوقت للعراق. يصعب إقناعها بما هو على المحك في العراق. أكثر من ذلك، يصعب إقناع أي إدارة أميركيّة بأن الأزمة العراقيّة صارت جزءا من الأزمة الإيرانيّة. ليس معروفا متى تعي أميركا أنّ الكارثة العراقيّة تحوّلت إلى كارثة إقليمية في وقت ليس لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران أي حلول، بما في ذلك للوضع الداخلي الإيراني المحتقن. على العكس من ذلك، تتصرّف إيران من منطلق أنّ لديها أوراقها الإقليمية، أكانت هذه الأوراق العراق أو سوريا أو لبنان أو اليمن.
يختزل الأزمة العراقيّة ببعدها الإيراني، رفض عضو مجلس النواب العراقي حنان الفتلاوي قرارا للبرلمان العربي أدان القصف الإيراني لمنطقة كردستان العراق. تفردت الفتلاوي، التي كانت حاضرة لجلسة البرلمان العربي، وهي من كتلة “دولة القانون” التي يتزعمها نوري المالكي، القرار العربي. أعطت فكرة عن مدى تبعية بعض سياسيي العراق لإيران في ما يمكن اعتباره نتيجة مباشرة للهيمنة التي تمارسها “الجمهوريّة الإسلاميّة” على البلد.
يعود جانب من غياب الثقة العربيّة بالسياسة الأميركيّة إلى ارتكابات إدارة جورج بوش الابن في العراق. كيف يمكن الركون لدولة عظمى، بل للدولة العظمى، ما زالت ترفض الاستماع إلى نصائح حلفائها من عرب وغير عرب مثل الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي لم يتردّد في اتخاذ موقف يعترض على الاجتياح الأميركي للعراق في 2003.ستحتاج عملية استعادة الثقة العربيّة بأميركا فترة طويلة في ضوء الخطأ، المتمثل بحرب العراق. وهو خطأ من النوع الذي لم يعد ممكنا إصلاحه في غياب تغيير كبير في إيران!