خسر الشعب العراقي أوهامه في التغيير من خلال الخلاص من الجزء الأكثر فسادا من الطبقة السياسية، حين قرر السيد مقتدى الصدر إعادة الدولة بكل ممتلكاتها إلى أولئك الفاسدين، فكان أن استعاد حزب الدعوة سلطته التي فقدها مؤقتا وصوريا، وعاد نوري المالكي ملكا متوجا وليس مجرد صانع ملوك، من خلال حكومة لن تلتفت إلى أخطائه وحماقاته وجرائمه وقوانينه التي هي أساس الفساد الذي صار شبكة عملاقة التفت على مفاصل الدولة كلها، وأخضعت ثروة العراق لعملية ابتزاز دائم.في الوقت الذي استبعدت فيه عملية مساءلة الفاسدين فإن السجون ستظل مليئة بالآلاف من المعتقلات والمعتقلين الذين جُردوا من حقوقهم المدنية، بموجب القانون أربعة إرهاب الذي سنه المالكي تعبيرا عن نزعته الطائفية الشرسة. سيكون العراق طائفيا أكثر مما كان عليه من قبل، في ظل حكومة يديرها المالكي كما لم يفعل في حكومتيه. لقد عادت حكومة المالكي من وراء حجاب. ولكنه حجاب سيزول بعد حين.
فإذا كان العراقيون متواضعين وقد حلموا بفساد أقل فإن الصدر بتفريطه بأصواتهم قد فتح الأبواب لفساد أكثر. هو فساد بأدوات شابة وخبرة أشد تفننا وتقنيات جديدة، من خلالها سيجدد نظام المحاصصة الطائفية شبابه ويستعيد قوته ويكون أكثر إفراطا في استعمال العنف مدعوما بصمت عالمي.أربع سنوات أخرى لن يوضع فيها حجر على حجر ولن ينعم العراقيون فيها بأموال نفطهم وسيظل الفاسدون هم سادة السلطة والشارع. بيدهم الحكومة والقضاء والرقابة والتشريع والاقتصاد والسوق، وما ظهر وما بطن من شؤون الحكم وعلاقات العراق بمحيطه الإقليمي وبالعالم الذي قال كلمته مؤخرا في ما يتعلق بالفساد والفاسدين على لسان ممثلته في العراق.
استخفاف الصدر بالإرادة الشعبية فيه الكثير من الإلغاء، كما لو أن الشعب لم يكن. كما لو أن إرادته لا قيمة لها
وإذا كان الشعب العراقي قد وجه صفعة قوية لرموز الفساد الذين توهموا بأن الشارع بعد سنوات طويلة من الحكم صار ملكهم، فإن الصدر رد الصفعة صفعات من خلال تخليه عن الأصوات التي جعلته منتصرا كما أراد. لم تكن كل الأصوات التي دخلت إلى سلة الصدر تعود لعراقيين ينتمون إلى تياره أو يؤمنون بأفكاره أو يؤيدون برنامجه السياسي أو يصدقون وعوده. كان هناك مَن يرغب في إلحاق الهزيمة بالفاسدين وحرمانهم من السلطة التي تهبهم حصانة لن يتمكن القضاء بسببها من محاسبتهم والكشف عن جرائمهم.
لم يكن الجميع صدريين. كانوا أصحاب موقف حر، وطني ونزيه. غير أن الصدر استغفلهم في النهاية وضحك عليهم كما لو كانوا كلهم صدريين. هل يُلام الصدر في ذلك أم يُلام الشعب الذي لم يجد أحدا يضع ثقته به فوضعها بطريقة عشوائية فيها الكثير من الارتجال والانفعال بالصدر الذي أثبت في ما بعد أن الذين لم يثقوا به وسخروا منه كانوا على حق؟
ومثلما حذف العراقيون من حساب ثقتهم حزبيين فاسدين من نوع نوري المالكي فقد صار عليهم أن يسحبوا ما تبقى من ثقتهم في الصدر. فكل رموز نظام المحاصصة الطائفية سواء. اللغة التي تفرق ما بينهم لا يمكن ترجمتها إلى أفعال. فهم في النهاية وجوه للعبة واحدة. صار جزء من تلك اللعبة أن يظل الوفاء للنظام فوق كل اختلاف. وهو ما حافظ عليه الصدر حتى حين وجد نفسه قادرا على سحق خصومه الذين طالما سخروا منه.
لم يلتفت الصدر إلى الشعب حين قرر أن يُلقي بأصواته في مكب النفايات. وبغض النظر عن الضغوط الإيرانية التي تعرض لها فقد كان عليه ألا يفجع الشعب قبل أن يكاشفه. ذلك أضعف الإيمان. إلا إذا كان السيد يحتقر الشعب وإرادته وتضحياته وخسائره وكرامته ورغبته في أن يرى بلاده وقد تحررت من الاحتلال الإيراني.
استخفاف الصدر بالإرادة الشعبية فيه الكثير من الإلغاء، كما لو أن الشعب لم يكن. كما لو أن إرادته لا قيمة لها. لقد وهب الصدر هذه المرة النظام، نظام الفساد ما لم يكن يملكه من الشرعية. ذلك لأنه وهبه أصوات معارضيه، أصوات الراغبين في إلحاق الهزيمة به وسقوطه.وبذلك يكون الشعب حين ناصر الصدر على خصومه قد انتصر للفساد. حدث يمتزج من خلاله البكاء بالضحك، المراثي بالفكاهات، الحظ العاثر بالأوهام. ليس جديدا أن يُقال إن العراقي الضاحك من قدره الفجائعي هو سيء الحظ دائما، ولكن أن يتماهى العراقيون مع سوء الحظ حين يكون على صورة مقتدى الصدر فإن ذلك إنما يكشف عن حقيقة أن ذلك الحظ السيء هو صناعة عراقية.