حين يكون الزعيم السياسي المسؤولُ عن جماعة أو حكومة أسير الحقد الشخصي المَرَضي على شخص أو فكرة أو عقيدة أو طائفة فإنه يتحول إلى كارثة لا تدمره وحده، بل تعم لتشمل آخرين، ثم تقوده إلى نهايته مشنوقا أو سجينا أو هاربا من وجه العدالة.وعندنا، نحن العراقيين، ثلاثة أمثلة على ذلك. الأول هو نوري المالكي. فمنذ أن أخطأ السفير الأميركي في العراق، زلماي خليل زاده، فنصّبه رئيسا للوزراء في 2006، وحتى فضيحة تسريباته الصوتية الأخيرة الناضحة بالكراهية والحقد والتعصب والدموية، وهو متفرغ، بالكامل، لتدبير المؤامرات والدسائس، ورسم الخطط، وجمع الأسلحة والأدوات والإمكانات الشخصية والأسرية والحزبية ليتغدى بها بعدوّه قبل أن يتعشى به وهو غافل.
وقد جاء ظهورُه الأخير حاملا رشاشته في المنطقة الخضراء باحثا عن عدوّه لقتله، في أواخر تموز/يوليو الماضي، ليثبت أنه لا يحقد على خصومه السنة أو الكرد، فقط، بل على إخوته في البيت الشيعي، وعلى واحد اسمه مقتدى الصدر، رغم أنه أحسن إليه وأعانه على رئاسة الحكومة مرّتين.
ولا نحتاج إلى براهين على ما يختزنه من كراهية ورّطته وورّطت معه الدولة العراقية، شعبا وحكومة، بصراعات ومؤامرات ومعارك وتلفيق ملفات وخيانات وتقلبات، حتى صار السياسيَّ المكروه والمرفوض رقم واحد، ليس في أوساط الطوائف والقوميات الأخرى، بل لدى أبناء طائفته الشيعية، قبل غيرها، وخصوصا لدى الأجيال الجديدة المتحضرة المتنوّرة منهم.والكثيرون هم الذين يعتبرونه مسؤولا عن مجزرة سبايكر التي قتل فيها الدواعش ألفين من شباب القوة الجوية العراقية في حزيران/يونيو 2014، وعن احتلال الموصل، وعن هروب جيشه من المواجهة مع داعش تاركا لها أسلحته الأميركية المتطورة لتحتل بها مناطق عراقية مهمة أخرى، مع ما رافق ذلك من سبي وتهجير وتقطيع رؤوس.
مقتدى الصدر الذي كان حقدُه الشخصي على نوري المالكي، تحديدا، قد تحول إلى منهج سياسي وعسكري ومالي ثابت قامت عليه سياساته وتصريحاته وقراراته، بقصد الثأر والانتقام والكثيرون أيضا، وفي مقدمتهم مسؤولون في الأمم المتحدة، يحمّلونه المسؤولية عن عبث مدحت المحمود بالقضاء وإفراغه من عدالته واستقلاله وتحويله إلى عصا يستخدمها المالكي ضد أعدائه الكثيرين. يضاف إلى ذلك كله ما قيل عن اختلاساته أو هدره للمال العام إلى الحد الذي جعل خزينة الدولة الغنية خاوية بشهادة أخيه في حزب الدعوة حيدر العبادي.
ولولا الحماية الأميركية المتخادمة مع الحماية الإيرانية لكان قد لقي جزاءه العادل، منذ زمن طويل.ومن نكد الدنيا على العراقيين أنه، رغم كل تاريخه المغمّس بالدم والدموع، ما زال واقفا على قدميه، مطلق السراح يصنع الرؤساء والوزراء والمدراء وقادة الجيوش.
والحكومة الجديدة التي بشرنا هو نفسُه بأن رئيسها محمد شياع السوداني سيكون حامي الحمى وزارع الأمن والعدل والمحبة والرخاء والسلام هي حكومة الدورة الثالثة لهذا المالكي، مهما قيل عنها ومهما سيقال.وإيمانا بقوانين الطبيعة وحكم الزمن فإن ما ينتظر هذا المخلوق الغلط، طال الزمن أم قصر، شيءٌ مريع وفظيع ناله قبلَه أباطرة الدنيا وفراعنة الزمان.
أما الثاني فهو مقتدى الصدر الذي كان حقدُه الشخصي على نوري المالكي، تحديدا، قد تحول إلى منهج سياسي وعسكري ومالي ثابت قامت عليه سياساته وتصريحاته وقراراته، بقصد الثأر والانتقام.ورغم أن حلفاءه الإيرانيين، في فترات متعددة، كانوا يرغمونه على مصاحبة هذا العدو، في 2006 و2010، والعمل معه في حكومة واحدة، إلا أنه ظل يترقب الفرصة السانحة لمحوه من الوجود.
وبين هذا وذاك كان المواطن العراقي البريء هو الذي يدفع الثمن من حريّته وأمنه وكرامته ولقمة عيشه ورزق عياله.وحين وقعت المعجزة، وفاز تياره الصدري بأغلبية مقاعد البرلمان في2021 رفض، بشكل قاطع ونهائي، أيّ وساطة لإشراك المالكي أو أيّ واحدٍ من أصهاره وأقاربه وأعوانه، في الحكومة القادمة، بأيّ شكل وبأيّ صيغة، معتقدا بأن تحالفه التحاصصي المرحلي مع جماعة مسعود بارزاني الكردي، ومحمد الحلبوسي السني قد مكَّنه من عدوّه اللدود، وجعل قبضة الحديد الإيرانية غير قادرة على منعه من الإجهاز عليه.
ومن أجل الإطباق على عدوّه راح يبشر بحكومة لا إيرانية ولا أميركية، ثم أخذته سكرة النصر فحبس نفسه في وعود وشعارات وطنية لا طاقة له على تنفيذها.فوعد الشعب العراقي بسحب سلاح الفصائل المسلحة (الإيرانية) الوقحة، وبإعادة ترشيد الحشد الشعبي (الإيراني)، وبرفض الوصاية الإيرانية، ليكون بهذا ناقلا حربه من نوري المالكي إلى الحرس الثوري ووكلائه وجواسيسه الأقوياء الأثرياء.
وهنا تطوّع مرجعه الطائفي، كاظم الحائري، فخيَّره بين التبعية للمرشد الأعلى علي خامنئي أو تحمل التبعات، فكان ما كان، وانتهى به الأمر إلى رمي مقاعده الثلاثة والسبعين في البرلمان لخصومه الإطاريين، واعتزال السياسة، بصمت وهدوء، لتجنب الاغتيال.طيلة سنوات النشاط السياسي الناجح لأحمد الجلبي لم يتأخر عن اصطياد أيّ فرصة متاحة للانتقام
أما الثالث فهو السياسي البارز الراحل أحمد الجلبي الذي كان قاب قوسين من امتلاك عرش العراق، بعد أن تمكّن، بذكائه وخبرته، من الدخول إلى العقل الأميركي والقلب الإيراني وتفعيل الجهد العسكري المشترك لإسقاط النظام، ووراثة صدام حسين، لولا جرثومة الحقد الشخصي التي دفعته إلى المغالاة في طلب الانتقام.
وأصل الحكاية أنه كان رئيس مجلس إدارة بنك البتراء في الأردن ومديرَه التنفيذي، وبقى في هذا المنصب حتى صدور قرار لجنة الأمن الاقتصادي الأردنية في آب/أغسطس عام 1989 القاضي بإعفاء الجلبي من منصبه، وتعيين لجنة إشراف على البنك المنهار، بعد اكتشاف عملية اختلاس قام الجلبي بتدبيرها وتنفيذها بالتعاون مع إخوته وأقاربه، وصدر أمر إلقاء القبض عليه، ولكنه تمكن من الهرب في نفس اليوم إلى لبنان ومنه إلى بريطانيا.
وبعد عامين ونصف العام من التحقيق والمحاكمة أصدرت محكمة أمن الدولة الأردنية قرارها في القضية التي تمت محاكمة نحو 47 شخصاً على خلفيتها، وحكم عليه غيابيا بالسجن لمدة 22 عاماً.وحين صار حليف المخابرات ووزارة الخارجية الأميركية والبيت الأبيض، وأنشأ المؤتمر الوطني الموحد في 1992 بأموال الـ”سي آي أي” لجأ إلى استخدام وضعه الجديد وصداقته مع مسؤولين أميركيين كبار لإرغام العاهل الأردني على إلغاء الحكم، لكن الملك لم يستجب، معتذرا بأن هذا من اختصاص القضاء.
وطيلة سنوات النشاط السياسي الناجح لأحمد الجلبي لم يتأخر عن اصطياد أيّ فرصة متاحة للانتقام.وفي 2003 كان الجلبي أول الداخلين مع قوات الغزو الأميركي إلى العراق. وبذكائه وبحسه الأمني سبق أقرانه في البيت الشيعي فهجم على مبنى مخابرات النظام واستولى على ملفاتها وأقراصها المدمجة وأجهزة الكومبيوتر التي كانت تستخدمها.
وهنا بدأت المعركة الحاسمة مع الأردن. فقد راح يستخدم أسرار العلاقة التي كانت قائمة بين صدام حسين والملك حسين، قبل الغزو، ويهدد بفضحها إذا لم يأمر الملك بتبرئته من تهمة الاختلاس، معتقدا بأن هذا الحكم هو العائق الذي يمنع الولايات المتحدة الأميركية من تنصيبه رئيسا للوزراء.ويقال إن الملك عبدالله الثاني توجه إلى البيت الأبيض وشكا للرئيس الأميركي بوش الابن من تلك التهديدات المؤذية.
وفي فجر يوم 20 أيار/مايو 2005، داهمت قوة عسكرية أميركية مدعومة بشرطة عراقية مكاتب الجلبي في المنصور، وصادرت جميع أجهزة الكومبيوتر وكمية كبيرة من الأقراص والملفات التي كان قد استولى عليها من مبنى مخابرات النظام السابق.ومن يومها وأحمد الجلبي ثائر على الأردن، وعلى أميركا، وعلى رفاقه في مجلس الحكم، وعلى حكومة نوري المالكي الأولى، ثم الثانية، ولم يتوقف عن فضح سرقاتها وتلاعبها بالمال العام، بالوثائق، وبالأسماء والأرقام، حتى انتهى جثة هامدة، وحيدا في منزله، دون رفيق ولا صديق.