أكذوبة ثنائية محوري الشر العراق وإيران لم تمرّر. فلأفغانستان قصة أخرى من قبل الإدارات الأميركية بحزبيها الجمهوري والديمقراطي. منذ البداية كشف العالم أن المقصود بها كان العراق، ثم العراق، وليست إيران الخميني 1979.السبب معروف، فقد كشف نظام 1968 في العراق عن هويته المعادية لإسرائيل عملياً حين سارع قادته لنصب مشانق جواسيسها في ميدان التحرير ببغداد، فيما كانت قصة الرهائن الأميركان في أول عهد نظام الولي الفقيه الإيراني خدعة إيرانية – أميركية مشتركة كشفتها حقائق تعاون التسليح مع إسرائيل (فضيحة إيران غيت) برعاية واشنطن في عهد الجمهوري رونالد ريغان.
لا يوجد مؤشر إستراتيجي أو سياسي أو أمني واحد يؤكد تخلي واشنطن بجميع عهود رؤسائها عن علاقتها الحميمة بطهران، التي أصبحت دفينة بحكم الضرورات السياسية، كما أعلنت وتعلن مجموعات البروباغاندا الأميركية التي لم تعد مؤثرة في الرأي العام العالمي، وليس العربي المحلي المنغلق.حاولت إدارة ريغان مثلاً إطالة أمد الحرب العراقية – الإيرانية وتمكنت من ذلك بمساعدة الخميني نفسه، لكن الانتصار العسكري العراقي عام 1988 خذل واشنطن قبل طهران.
وقدم رئيس النظام العراقي السابق هدية مجانية لقوى اليمين الأميركي المتشدد الذي تدرج في هيمنته على الإدارات الأميركية منذ عهد بيل كلينتون ثم بوش الأب. والأخطر كان بوش الابن، الذي استثمر احتلال العراق للكويت لتنفيذ مشروع اليمين ضد العراق. وكان الديمقراطي كلينتون قد سبقه بشن حملات جوية عدوانية غير مبررة ضد العاصمة العراقية مقترنة بقانون “تحرير العراق” وبدعم مالي بخمسين مليون دولار لمن اعترفوا بهم معارضة لإسقاط نظام بغداد. ثم أكذوبة المجرم بوش الابن وطاقمه الاستخباراتي والدبلوماسي حول وجود أسلحة دمار شامل والتي لم تغط فضيحة الهدف الأميركي – الإيراني وهو تدمير العراق وتمزيق شعبه عام 2003.
هذه المقدمات يحتفظ بها جيل مهم من العراقيين داخل صدورهم قبل رحيلهم، إلى جانب أوراق تاريخ البعض منهم التي قد لا يعرف تفصيلاتها الجيل الشبابي الجديد، لتمرر عليهم أوهام المتوطنين في بلدهم من أجهزة نظام خامنئي الإيرانية والعراقية، بأكاذيب تمزقت كقصة “الشيطان الأكبر” و”المقاومة الإسلامية”.لا مقارنة تستحق الذكر بين ما يقال عن السياسات الاستبدادية القمعية للنظام العراقي السابق، التي وضعتها الولايات المتحدة كأسباب لغزو العراق واحتلاله عسكريا، وبين ما تعيشه اليوم شعوب إيران من قمع وقتل ممنهج وفق إنذارات معلنة من قادة النظام الدكتاتوري القائم الذي يواجه ثورة شعبية متصاعدة لإسقاطه. مع ذلك لا تتردد إدارة جو بايدن في إبلاغ طهران علنا على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن “إن واشنطن لا تريد تغيير نظامكم”.
إذن، هذه هي الحقيقة السياسية المهمة الدالة بأن جميع الإدارات الأميركية بما فيها إدارة بايدن الحالية لا تريد إسقاط نظام دكتاتوري يقتل شعبه باسم أغطية دينية مذهبية، لكن هذه الإدارة تحاول تمرير خدعة حقوق الإنسان في إيران كشعارات إعلامية تعرف حقيقتها شعوب إيران الصامدة.إدارة بايدن لم تكن مفتعِلة لهذا الموقف الواضح، وهو منسجم تاريخياً مع “وليّ الأمر” باراك أوباما المُتيم العاشق لإيران. حسب روايات مستشاره بن رودس الذي كشف في كتابه “العالم كما هو” عن أسرار العلاقات الحميمة بين أوباما وإيران مقابل الكره الشديد للعرب.
وقد أوضح رودس أن أوباما كان “يعشق إيران وحضارتها إلى حد العمى”، وقدم تنازلات كبيرة وخضع لابتزاز طهران مقابل التوصل إلى الاتفاق النووي. تدعم هذه الوقائع والآراء وثائق السفير الأميركي السابق زلماي خليل زاد حول التعاون الأميركي – الإيراني في احتلال العراق.لم يتوقف أوباما عند حدود التنسيق المشترك مع طهران بعد غزو العراق بسنوات، فقد استمر في مسلسل الاستجابات التي من المفترض ألاّ تصدر عن رئيس أكبر دولة سبق لها أن وضعت إيران ضمن دول محور الشر إلى جانب أفغانستان والعراق. وفق رودس استجاب أوباما لجميع طلبات طهران من بينها استبعاد مجيء أياد علاوي كرئيس وزراء للعراق بعد فوزه بانتخابات عام 2010 في تحوّل كاد يبعد الإسلام السياسي الشيعي عن الحكم، فقد تم فرض رئيس حزب الدعوة نوري المالكي (المقرب من طهران) رئيسا ً للوزراء بدلاً عنه.
الرئيس السابق المشاكس دونالد ترامب استعاد تفجير قنبلة تسريب 35 ألف إيميل بين حكومة أوباما عن طريق وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون وقائد فيلق القدس الإيراني السابق قاسم سليماني، الذي قتلته القوات الأميركية بداية عام 2021 في مطار بغداد، تضمنت الرسائل اتفاقا بين أوباما وسليماني حول تأسيس ميليشيات في العراق على غرار الحرس الثوري الإيراني بالاتفاق مع نوري المالكي.نشر الكاتب الأميركي زاك كوبلين مقالًا في مجلة “ذي نيو ريبابليك”، قال فيه إن الولايات المتحدة قدمت الدعم للميليشيات التابعة لقاسم سليماني قبل أن تتخلص منه، وأنه وغيره كانوا من المستفيدين من الدعم المالي للولايات المتحدة. يقول الكاتب إنه بنى استنتاجه بعد عامين من التحقيق في العمليات العسكرية الأميركية في العراق. وعن تعاملها المزدوج، فيقول الكاتب إن الولايات المتحدة التي قاتلت قوات الصدر كانت تمولها في الوقت ذاته، في إشارة إلى جيش المهدي.
الشعب الإيراني خرج في انتفاضات كثيرة، آخرها استثمار مقتل مهسا أميني التي فجرّت ثورة شعبية بجميع القطاعات الشبابية والطلابية تجاوزت المطالب القطاعية في حقوق المرأة والإنسان الى مطالب سياسية مباشرة بتغيير دكتاتورية نظام خامنئي، فالشعب الإيراني أدرك بشكل قاطع أن سرّ أزمته الطاحنة يكمن في أنموذج النظام نفسه، والذي يحكمه بشكل دموي ومتخلف أسهم في قمع حرياته وفي فقره المدقع.لقد حوّلت عصابات الحكم في طهران الدين والمذهب إلى طائفية مقيتة كانت آثارها على بلدان كالعراق وسوريا ولبنان أكثر من الداخل الإيراني الذي اضطهده النظام في إفقاره اقتصادياً واجتماعيا، لهذا توحَّد “الوعي الشعبي” داخل إيران في وجه القتل والبطش الممنهج والمُعلن.
رغم هذه الحقائق اليومية في نضال الإيرانيين لإسقاط النظام القائم تعلن واشنطن بوقاحة أنها لا تريد تغييره، في تغطية لما تحاول الإيحاء به بأن مسؤولية تلك المهمة تقع على الشعب الإيراني، لكن حين عبّأت إدارة بوش العالم لإسقاط نظام الحكم العراقي عبر احتلال عسكري مباشر عام 2003 لم تقل بأن مسؤولية تغيير النظام في بغداد تقع على الشعب العراقي وليست أميركا.من الأساليب التقليدية الإعلامية للنظام الدكتاتوري الإيحاء بأن “النظام يتعرض إلى حملة أميركية إمبريالية لإسقاطه، وأن قوى الشعوب الإيراني الثائرة منذ ستة أسابيع في الشوارع هي جزء من هذه المؤامرة”.لكن من الغريب حقاً كيف يدعم هذه الأكاذيب كتاب وصحافيون عرب كان بعضهم داعماً لنظام صدام حتى يوم سقوطه، وأصبحوا اليوم من أشد الموالين لنظام خامنئي المعادي لشعب العراق. لا يترددون هذه الأيام في رسم سيناريو خيالي لاستعدادات غزو أميركي مفترض ضد إيران ينطلق من مدينة أربيل الكردية العراقية. لا أدلة على تلك الاستعدادات العسكرية المفترضة سوى أخبار علاقات عامة للرئيس الأميركي والبيت الأبيض تشير إلى وقوف واشنطن الإعلامي إلى جانب المُحتجّين في إيران انطلاقاً من أكذوبة حقوق الإنسان.
والسؤال المنطقي: ماذا يقدم نظام الولي الفقيه لواشنطن من خدمات لكي تحافظ على استمراره، فيما الوقائع تقول إن المصالح الإستراتيجية الأميركية قد تضررت وتراجعت منذ ثلاثة عقود في المنطقة؟هناك إدراك داخل أروقة صناعة القرار الأميركي مبعثه دوافع أيديولوجية دفينة، قسم منها غذّته عبر سنوات نزعات اليمين المتطرف مع غوغاء الديمقراطيين اليسارية بأن وجود نظام ديني دكتاتوري إيراني مثلته نظرية الخميني في “تصدير الثورة” يخدم أهداف تفكيك المنطقة العربية وإبقائها رهينة الخارج.مع هذا الواقع للسياسات الحكومية في الولايات المتحدة تنشر تقارير وآراء تتناقض مع تلك السياسات، وتؤكد عبثية الدفاع عن استمرار هذا النظام الدكتاتوري في المنطقة.
المعهد الأميركي للدفاع عن الديمقراطية نشر تقريراً أشار فيه إلى أن وجود إيران دون الجمهورية الإسلامية لن يحد فقط من الأعمال العدائية مع الغرب بل سيوفر أيضًا فرصا اقتصادية وسياسية مهمة للولايات المتحدة، خاصة أن إيران هي واحدة من الأسواق الوحيدة المتبقية في العالم غير المستغلة حقًا. كما تمثل إيران الحرة فرصة لإحلال السلام الدائم في المنطقة. إن وجود إيران دون عداء تجاه الحلفاء الإقليميين لأميركا سيتيح لواشنطن تمكين هؤلاء الحلفاء من تنسيق الأمن الإقليمي بشكل أكثر فعالية.سياسة أميركية حمقاء لا تعبّر عن المصالح الأميركية العليا، قدمت لإسرائيل خدمة تفتيت المنطقة بعمل ميداني إيراني لكي تحافظ على أمنها وتعززه. هدف إسرائيلي إستراتيجي استبعدت فيه المصالح الأميركية التي كان من الطبيعي أن تتراجع في العالم إلى مستويات أصبحت آثارها الداخلية الأميركية سيئة على مستوى خدمة الأميركيين الذين كانوا يتبجحون بأنهم الأكثر رفاهية في العالم.