الأكراد مشكلة مستعصية على الحل في منطقة الشرق الأوسط. هناك مَن يقول “إنهم صنعوا تلك المشكلة”. هناك قوميات من غير دولة. ذلك أمر طبيعي. ليس شرطا أن تكون لكل قومية دولة مستقلة. لا يوافق الأكراد على تلك النظرية بالرغم من أنهم لم تكن لهم يوما مّا دولة في الأراضي التي يقيمون عليها. أما جمهورية مهاباد التي أقيمت في إيران في خمسينات القرن العشرين فقد كانت كذبة روسية سرعان ما انهارت بعد أن تخلّى الروس عنها. صدّق الأكراد تلك الكذبة ولم يعد في إمكانهم بعدها أن يعودوا مواطنين في الدول التي يقيمون على أراضيها. لقد صار حلم الوطن القومي أشبه بالورطة التراثية بالنسبة إلى أجيال تتلمذت على عداء الوطن (الرسمي). فأكراد إيران يكرهون أن يكونوا إيرانيين بالرغم من أن لغتهم تنتمي إلى الشجرة اللغوية الإيرانية وأكراد تركيا يكرهون أن يكونوا أتراكا بالرغم من أن سياسييهم يشاركون في الحياة السياسية التركية وأكراد سوريا يكرهون أن يكونوا سوريين بالرغم من أن سوريا لا تعترف بالقومية الكردية أما أكراد العراق فقد تمتعوا بامتيازات فاقت ما يحلمون به غير أنهم يكرهون عراقيتهم.
من حق الأكراد طبعا أن يطالبوا بحقوقهم على المستويات كافة. غير أن الاعتراف بتلك الحقوق لا يتعارض مع مبدأ المواطنة ولا يتنكّر له. العكس هو الصحيح تماما. غير أن الأكراد (وهنا أقصد الجماعات الحزبية) لا ترى أيّ انسجام بين الحقوق القومية والانتماء إلى وطن يجمعهم بالآخرين. لقد صيغت أحلامهم على أساس قيام دولة كردية مستقلة تضم أجزاء من دول مستقلة ذات سيادة وذات حدود ثابتة. بمعنى أن قيام دولة كردية يجب أن يتم على حساب سيادة دول مستقلة. وهو أمر ترفضه تلك الدول ولا يقبل به القانون الدولي. وما جرى في العراق لم يكن قرارا عراقيا خالصا، بل جاء بناء على وضع استثنائي فرضه الغزو الأميركي عام 2003 ولم يكن للأكراد يد فيه.
وليس نوعا من الفطنة السياسية أن يعتبر الزعماء الأكراد أن إقليم شمال العراق، الذي هو الآن عبارة عن دولة مستقلة يعيلها العراق، بؤرة لقيام الدولة الكردية الكبرى. فذلك رهان انتحاري يمكن أن يؤدي إلى استفزاز الدول الثلاث واستعدائها وبالأخص تركيا وإيران لأن سوريا تمر هي الأخرى بظرف استثنائي لا يعينها على التفرغ لما يفكر فيه الأكراد خارجها. وإذا ما كان قيام إقليم الأكراد المستقل شمالي العراق قد جرى بسبب ضعف الإرادة السياسية العراقية وعدم رغبة الأحزاب الشيعية في الصدام بالأكراد فإن موقف دولتين قويتين مثل تركيا وإيران من المسعى الكردي قد يؤدي إلى إجهاض تلك الفرصة الذهبية التي لا يمكن أن تتكرر في أي مكان يقيم فيه الأكراد.
وقد يبدو الموقف الملتبس، غير الواضح الذي تتخذه الحكومة العراقية من الضربات التي توجهها قوات البلدين إلى مواقع محددة شمالي العراق كما لو أنه بمثابة عامل تشجيع للدولتين من أجل إنهاء الأوهام الكردية التي هي جزء من وهم العراق الجديد الذي صار من الصعب تخيل انتقال دولته من الورق إلى العالم الواقعي. فدولة يبلغ تعداد منتسبي قواتها المسلحة قرابة المليون ولا تتمكن من الدفاع عن نفسها ومنع الآخرين من اجتياح أراضيها هي دولة من ورق، جيشها عبارة عن مجموعات فضائية حسب التعبير العراقي. وفي واقع الأمر فإن الأكراد أنفسهم وإن كانوا يفخرون بتاريخ ميليشياتهم (البيشمركة) العسكري فإنهم يدركون أن تلك الميليشيا هي أشبه بالقوات العراقية لا تقوى على صد هجوم يقوم به تنظيم إرهابي مسلح مثل داعش.
ذلك كله يدفعني إلى القول إن الدولة الكردية القائمة شمالي العراق هي ليست إلا وهما شجع الأميركان على بقائه من خلال إقامتهم دولة ضعيفة في العراق وهم غير مستعدين لاستعداء إيران وتركيا من أجل أن يتحول ذلك الوهم إلى أمر واقع، بدليل أن الولايات المتحدة لم تندد يوما مّا بالهجمات التركية والإيرانية التي يتعرض لها الجزء الشمالي من العراق بين حين وآخر.كان في إمكان الزعماء الأكراد أن يتعلموا درسا من استفتاء الانفصال الذي أقاموه عام 2017 حين وقفت الولايات المتحدة ضده وتعاملت معه ببرود، فُهم منه أنها غير موافقة على نتائجه. كان عليهم يومها أن يتخلوا عن أوهامهم التوسعية ويكتفوا بدولة مصطنعة ينفق عليها العراق الذي تكرهه.