فساد ملياري آخر في دولة أشبه ما تكون بدولة ورقية بلا أجواء ولا أمن ولا أمان ولا سيادة ولا مياه. دولة لا حدود للفساد فيها.قد يلخص هذا المشهد في العراق الذي أضحى رهينة الأزمات والفساد وعبرة لمن يعتبر.العراق الغني ليس كالعراق الفقير، فمع تعافي الاقتصاد بفعل ارتفاع أسعار النفط، الكل يجتمعون حول غنائم دسمة في صورة مثالية. ويبدو أن مائدة الفساد توحد موقف الأحزاب والقوى السياسية. ولكن العراق الفقير يهرب منه الكثير، وتتنكر الكتل والأحزاب السياسية لمكانته وحضاراته، بل وتفر من خارطته.دولة ورقية في ظل حكم زمرة فاسدة قد تتبخر من على الخارطة بسبب الأزمات التي تُفعِّلها أقطاب الأطراف والقوى السياسية الفاعلة، وتعمل فيها تمويها وتضليلا في الخفاء، تجمعها مصالح وفساد مشترك ونهب للثروات العامة.
في أحدث مسلسلات الفساد، تم عرض حلقة أخرى من الكشف عن عملية فساد طالت المليارات، البطل فيها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي يظهر وسط كميات من الأموال المسروقة تم استردادها؛ يبدو أنها خطوة استعراضية أكثر من كونها مساعيَ جدية لمواجهة الفساد الذي يهدد بإفلاس البلد. خطوة يراها البعض امتدادا للاستعراضات التي كان رئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي يؤديها بحماسة أكبر حين كان يتولى عمليات التقصي وكانت تهدف إلى امتصاص غضب الشارع وخداع المواطن بحسب الكثيرون من المراقبين.
مصادر نيابية تؤكد أن الموازنة المالية لعام 2023 قد تتجاوز 150 مليار دولار، بتحديد سعر برميل النفط بين 70 و75 دولارا، في رسالة قد يكون مفادها أن الأموال تكفي لإشباع الجميع، وبموازاة خطوات لتهدئة الأمور مع دول الجوار ودول المنطقة.كعكة عشرينية تجمع كل الأطراف والزعماء والكتل السياسية والنيابية والجنرالات والقادة العسكريين والبعثات الخارجية لتتفق على تقطيعها وتجزئتها في أجواء رومانسية وسط انعدام أصوات معارِضة.وموازنة ضخمة تفتح الأبواب أمام نخب سياسية تحكم البلاد والعباد منذ قرابة 20 سنة والتي لا تشبع ولا تستحي من فعل أي شيء لضمان بقائها في الحكم.أزمة ما وراءها أزمة، وفساد عابر للحدود ما وراءه فساد. هكذا تعيش بلاد الروافد والأنهار والأهوار والنفط، تترنح تحت وطأة أزمات متعددة، منذ أن استولت شرذمة من السياسيين على مقاليد الحكم بدعم من جيوش غازية وبمباركة إقليمية، بهدف إضعاف مكانة الدولة وطمس معالمها واستنزاف ثرواتها ومقدراتها.
رغم أن ملفات الفساد وتورط المسؤولين الكبار فيها بلغ من الحجم كمية تكفي لتأجيج الغضب الشعبي وغليان الشارع والخروج لسحق الفاسدين وزلزلة عروشهم ونسف العملية السياسية والإدارية والانتخابية، بل لقلب الطاولة على الحكام رأسا على عقب.ثمَّة صورتان مختلفتان للبلد ومتناقضتان إلى أبعد الحدود؛ صورة للمترفين الذين يعيشون وعائلاتهم وحاشيتهم على الأرائك متّكئين في ناطحات السحاب وأفخم القصور والمدن الزجاجية المحروسة بالأسوار وبأبراج المراقبة، وصورة أخرى للمشردين في العراء والتائهين مع الكلاب السائبة في الشوارع وبين الحاويات والخيام في الدرك الأسفل من جحيم الحياة. بينما شارع الثورة وقطارها الجارف معطل بفعل الانشطارات الطائفية والمذهبية والإثنية.
ما تم كشفه قبل أيام حول سرقة الأموال والتلاعب بالأرصدة والأموال النقدية بين مصرفين (الرافدين والرشيد) سيئي السمعة والصيت والبنوك اللبنانية وصف بالوهمي، وسط تداول معلومات تتحدث عن تهريب 4 مليارات دولار.جملة من الأسباب تقف وراء بقاء الزمرة السياسية على سدة الحكم، لعل أبرزها تدخلات من الدول المجاورة التي تدعم تيارات وأحزابا، شمالا وجنوبا، تفرض أجندتها الخاصة، إلى جانب صفقات بالمليارات من الدولارات شملت بيع الأسلحة والأجهزة الأمنية والطائرات المدنية والعسكرية، وعقودا غامضة مع شركات أوروبية وأميركية وصينية، ناهيك عن استهلاك شعار محاربة الفساد لتشتيت الرأي العام والشارع.
هذه العوامل أهم أسرار بقاء الطبقة السياسية واستمرارها في نهب الثروات وسرقة الأموال. هناك زعماء تحت عمائم سوداء وبيضاء يرفعون منذ سنين طويلة شعار الإصلاحات وتحقيق العدالة وتوزيع الثروات، وآخرون مكشوفة رؤوسهم يدَّعون محاربة الفساد في ظل ميليشيات طائفية وقادة عسكريين ضالعين بالفساد ونهب الأموال، يستخدمون العنف والرصاص الحي ضد المتظاهرين، ويقتلون الشعب دفاعا عن زعمائهم وتشبثا بحياة أراذل القوم.جلّ ما نشهده اليوم من مهازل وملفات للفساد وسرقة للأموال، قد يدفع إلى تمجيد النظام السابق رغم طغيانه وقسوة حكمه الطويل وزنزاناته ومخابراته وقواته القمعية.