من المفيد تكرار أنّ الحرب الأوكرانية، التي ستدخل قريبا سنتها الثانية، غيّرت العالم. لم تكشف هذه الحرب الحجم الحقيقي لروسيا ونوعية سلاحها والشخصية الحقيقيّة لفلاديمير بوتين فحسب، بل كشفت أيضا أنّ المناورات السياسيّة الإيرانيّة لم تعد تنطلي على أحد. لم تعد تنطلي حتّى على الإدارة الأميركيّة الحالية التي اعتقدت في مرحلة معيّنة أنّ إعادة الحياة إلى الاتفاق في شأن الملف النووي الإيراني صارت في متناول اليد.
كان هذا الاتفاق، وهو واقع الحال اتفاق أميركيّ – إيراني وقعته مجموعة البلدان الخمسة زائدا واحدا (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن زائدا ألمانيا) مع “الجمهوريّة الإسلاميّة”، بمثابة رضوخ لإيران. يرمز إلى هذا الرضوخ الرئيس السابق باراك أوباما الذي اختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج بالملفّ النووي الإيراني. ما لبث دونالد ترامب أن مزّق الاتفاق الذي سمح لإيران باستخدام الأموال التي جنتها منه بتعزيز دور ميليشياتها في المنطقة. أكثر من ذلك زاد المشروع التوسعي الإيراني عدوانية بفضل الخدمة التي أداها باراك أوباما لنظام “الجمهوريّة الإسلاميّة”…
بسبب الانشغال بالملف النووي الإيراني، تركت أميركا بشّار الأسد من دون عقاب على الرغم من استخدامه السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه في آب – أغطس من العام 2013. غيّر باراك أوباما رأيه في اللحظة الأخيرة، بشهادة تشاك هيغل وزير الدفاع الأميركي وقتذاك، واتكل على ضمانات من فلاديمير بوتين ينزع بموجبها بشّار سلاحه الكيمياوي. نسي أوباما أنّه كان جعل من استخدام السلاح الكيمياوي “خطا أحمر”. ما حدث بعد استخدام رئيس النظام السوري لهذا السلاح في غوطة دمشق أنّ أوباما صار يرى كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر. يعكس تصرّفه، في صيف العام 2013، الخوف من انزعاج إيران من أي مسّ بالنظام السوري الذي تبقى الولايات المتحدة المسؤول الأوّل عن بقائه وعن تحوّل سوريا نفسها إلى بلد تحت خمسة احتلالات. بكلام أوضح، كان الرئيس الأميركي يخشى في العام 2013 انسحاب إيران من المفاوضات السرّية التي كانت تجري في سلطنة عُمان وأماكن أخرى بغية التوصل إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي. لم يكن هذا الملفّ سوى غطاء لممارسات إيرانيّة من نوع آخر تستهدف القضاء على دول عربيّة معيّنة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن والتحرّش بدول الخليج العربيّة.
من هذا المنطلق، إن أميركا آخر من يحقّ له تناول أي قضية متعلّقة بوجود النظام الأقلّوي في سوريا. إذا كان من مسؤولية تقع على جهة دوليّة فاعلة لعبت دورا حاسما سمح ببقاء بشّار الأسد في دمشق، فإن هذه الجهة هي الإدارات الأميركيّة التي رفضت منذ العام 2011 وضع حدّ لعملية تفتيت سوريا على يد النظام المافيوي الذي تأسّس في العام 1970.
هل بات في الإمكان الكلام، في ضوء الحرب الأوكرانيّة، عن زوال الأوهام الأميركيّة في شأن إيران؟ الجواب أنّ ذلك ممكن بعدما صارت “الجمهوريّة الإسلاميّة” شريكا في الحرب التي يشنّها فلاديمير بوتين على أوكرانيا، والتي تحولت إلى حرب روسية – أوروبيّة بكلّ ما في مثل هذا التطور من أبعاد تهمّ كلّ دولة من دول القارة العجوز.
تؤكد مشاركةَ إيران في الحرب الأوكرانيّة المعلومات التي توزعها مصادر أميركيّة تمتلك صدقيّة كبيرة عن أن ليس في استطاعة بوتين الاستمرار في حربه من دون الدعم الإيراني. يتمثل هذا الدعم في المسيرات والصواريخ الإيرانيّة التي ترسلها إيران إلى روسيا. تكمن المفارقة في اكتشاف الأميركيين أخيرا أن معظم مكونات المسيّرات الإيرانيّة التي تفتك بالأوكرانيين حاليا ذات مصدر أميركي!
ليس معروفا بعد إلى أي حدّ ستذهب إدارة جو بايدن في المواجهة مع إيران بسبب الحرب الأوكرانيّة. لكنّ اللافت في الأيام الأخيرة تغيير في اللهجة الأوروبية تجاه نظام “الجمهوريّة الإسلاميّة” والإعدامات التي نفّذها في حق شبان إيرانيين بغية وضع حدّ للثورة الشعبيّة التي يشهدها البلد منذ مقتل الفتاة مهسا أميني في 16 أيلول – سبتمبر الماضي.
لم يعد من شكّ أنّ العالم تغيّر منذ شنّ الجيش الروسي هجومه على أوكرانيا في 24 شباط – فبراير الماضي. قبل كلّ شيء، غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة. تبيّن لاحقا أن الحلف القائم بينه وبين إيران حلف عميق وقديم وأنّ الرئيس الروسي وجد نفسه مضطرا للارتماء في الحضن الإيراني مع ما يعنيه ذلك من تراجع روسي أمام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في سوريا.
فوق ذلك كلّه، اكتشف فلاديمير بوتين حدود ما تستطيع الصين تقديمه له من دعم. اكتشف أن للصين، في ضوء المشاكل الداخليّة التي تواجهها، حسابات خاصة بها وليست على استعداد للذهاب بعيدا في استفزاز أميركا.ثمّة فرصة كي تصحّح إدارة جو بايدن أخطاء الماضي القريب، خصوصا في ما يتعلّق بتلك التي ارتكبتها في التعاطي مع إيران منذ احتجاز الدبلوماسيين الأميركيين العاملين في السفارة الأميركية في طهران 444 يوما في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1979.
الأهمّ من ذلك كلّه، هل تعي الإدارة الأميركيّة أخيرا أن مشاكل دول المنطقة مع إيران ليست مرتبطة ببرنامجها النووي فحسب، بل بسلوك “الجمهوريّة الإسلاميّة” خارج حدودها أيضا. ماذا تفعل إيران بطائراتها المسيّرة وصواريخها الباليستية وما الهدف من تمويل ميليشيات مذهبيّة في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ هل تفتح الحرب الأوكرانيّة عيون الإدارة على خطورة المشروع التوسعي الإيراني أخيرا؟في النهاية استطاعت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، المستفيد الأول من الحرب الأميركيّة على العراق في العام 2003، ابتزاز الإدارات الأميركيّة المتلاحقة إلى أبعد حدود الابتزاز. لم يختلف الديمقراطيون عن الجمهوريين في شيء عندما تعلّق الأمر بإيران وكيفية التعاطي معها. قد يكون السؤال الأهمّ الذي سيطرح في السنة 2023 هل يحصل التغيير الأميركي الكبير تجاه إيران… في ضوء الحدث الأوكراني أم لا؟.