تعتبر حكومة السوداني محطة حرجة وخطيرة في عمر الإسلام السياسي لبقائه في السلطة، منذ تسويقه وتعويمه وتنصيبه من قبل الاحتلال، وبقائه في السلطة مرهون بالقضاء على التشرذم السياسي داخل الطبقة الحاكمة والفوز بآلة الدولة، آلة القمع الأساسية من الجيش والشرطة والأمن الوطني والمخابرات والقضاء، وحسم مصير الهوية السياسية للدولة، أي الهوية الإسلامية بنسخة جعفرية على غرار النظام الإسلامي في إيران.
تشكيل حكومة السوداني من قبل الجناح الموالي لإيران، لا يعني أبدا انتهاء أزمة الإسلام السياسي على صعيد السلطة وعلى الصعيد الاجتماعي، ولذلك لم يتنفس أي واحد من ممثليه الصعداء مثل الخزعلي والمالكي والعامري والفياض، بالرغم من إطلاقهم العشرات من الفقاعات الإعلامية، بتسجيل أول انتصار لهم منذ الإطاحة بحكومة عبدالمهدي والعودة إلى السلطة التنفيذية.معضلة الإسلام السياسي الحالية في العراق ليس مردها لفظ الجماهير له، كما أثبتتها انتفاضة أكتوبر فحسب، بل أن القوى التي تمثل الإسلام السياسي مرتبطة ببعد عقائدي وسياسي واقتصادي بالنظام الإسلامي الحاكم في إيران، وأن النظام المذكور يئن من ضربات الجماهير منذ أشهر، وأقل ما يمكن أن يوصف به أنه يعيش أحلك أيامه.
من عاصر ثورة 1979 في إيران، قبل اختطافها من قبل الملالي بدعم الغرب، أو على الأقل قرأ فصولها التاريخية، يتذكر جيدا أن مرحلة سقوط نظام الشاه استغرقت عامين، أي بدأت تباشير الثورة تلوح قبل عامين. وهذا ما يحدث اليوم في إيران، لكن بسيناريو مختلف على صعيد المسرح الدولي، أو على صعيد التجربة النضالية التي تمتلكها جماهير إيران، أو على صعيد آلة القمع الرهيبة التي تملكها الجمهورية الإسلامية تتجاوز آلة القمع التي امتلكها نظام الشاه.الركود السياسي الذي يخيم على العراق، منذ تشكيل حكومة السوداني، والذي مر بردا وسلاما على الأحزاب الإسلامية وميليشياتها، لديه عنوان آخر وهو الهدوء قبل العاصفة.
حكومة السوداني، وبدعم البيت الإسلامي الشيعي المتهرئ، المتكون من القتلة والميليشيات والأحزاب الإسلامية وشخصياتها، تحاول امتصاص نقمة الجماهير، مستغلة فائض الميزانية الذي جنته على إثر ارتفاع أسعار النفط، ويقدر بأكثر من 115 مليار دولار في عام 2022، حيث تعمل على توزيع قسم منها على برامج تمويل تثبيت العمال وموظفي العقود في قطاعات الكهرباء والبلديات والموارد المائية والمحاضرين، أو استحداث درجات وظيفية للعاطلين عن العمل من الخريجين. وبرغم أن هذه الخطوة ليست أكثر من محاولة فاشلة لنزع فتيل انفجار اجتماعي جديد أو انتفاضة أخرى، إلا أنها في نفس الوقت تضع الاقتصاد العراقي في تناقض مع السياسة الليبرالية الجديدة التي وقعت عليها الطبقة الحاكمة بتلافيفها القومية والإسلامية والديمقراطية، وكانت الورقة البيضاء هي المظلة التي اجتمع الجميع تحتها، وأعطوا الضوء الأخضر لحكومة الكاظمي بتحويلها إلى سياسات عملية، وكان أول ما نتج عنها تخفيض العملة المحلية مقابل الدولار، ناهيك عن اتفاقيات أبرمت مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي برفع الحكومة يدها عن توفير الخدمات وتوظيف العاطلين عن العمل في القطاعات الحكومية.
أي بعبارة أخرى أن عدم إيفاء الحكومة العراقية بالتزاماتها تجاه المؤسسات المالية المذكورة، سيرفع الغطاء الاقتصادي عنها وبالتالي يرفع الغطاء السياسي عنها أيضا.تدرك تلك القوى الإسلامية خطورة الأوضاع التي تمر بها، لذلك لم يستعر هادي العامري زعيم ميليشيا بدر وأحد المتورطين الأساسيين في قتل متظاهري أكتوبر، والمتهم الرئيس في سرقة القرن التي تقدر بأكثر من 2 مليار دولار، كما أشارت صحيفة غارديان البريطانية، وقدرتها أوساط أخرى بمبلغ يتراوح بين 15 – 25 مليار دولار، نقول لم يستعر العامري طاقية جيفارا وحذاء كاسترو، إلا ليظهر في حفلة تنكرية إعلامية، ويتحدث لنا عن “الاستعمار” كما يتحدث بوتين روسيا هذه الأيام في خضم حربه ضد الغرب. ويضيف العامري أنه يجب التصدي والنضال ضد الاستعمار في العراق، أي النضال ضد المؤسسات المالية المذكورة التي ستحول ملف العراق إلى المفتي الأميركي، وقد شاهدنا أول فصولها قبل شهر عندما فرضت الخزانة الأميركية عقوبات اقتصادية على أربعة بنوك عراقية لتورطها بغسيل الأموال وتحويلها لدعم نظام الملالي في إيران، مما أدى إلى تدهور العملة العراقية.
ولا بد من الإشارة إلى مسألتين، تمسكان بخناق مشروع الإسلام السياسي في العراق، الأولى هي، أن القوى الإسلامية الأساسية في العملية السياسية تعتبر نفسها امتدادا عقائديا وسياسيا للنظام الإسلامي في طهران، ولذلك ليس لديها أي مشروع سياسي في العراق، سوى تحويل العراق إلى سوق اقتصادية لإيران ومنبع لتهريب الأموال والنفط، ومصدر لوجيستي للتأثير على المعادلة السياسية في المنطقة لصالح نفوذ النظام في إيران. ولذلك نجد جميع شخصيات ورموز الإسلام السياسي الشيعي، مثل العامري والخزعلي والفياض والمالكي، تلعب دور المندوب السامي ودور موظفين من الدرجة الأولى لوزارة الخارجية الإيرانية.أما المسألة الثانية، هي أن نفس الإسلام السياسي وبسبب غياب أي مشروع سياسي لبناء الدولة في العراق، استطاعت عصابات داعش ملاحقة جيش المالكي حتى مشارف بغداد خلال أيام، ومع هذا يتبجحون علينا بأنهم كانوا وراء الانتصارات على داعش، في حين أن المالكي الذي يتحدث اليوم مع رفاقه مثل العامري وغيره عن الاستعمار، هرع حينها إلى الإدارة الأميركية يطالبها بتفعيل الاتفاقية الإستراتيجية بين العراق والولايات المتحدة قبل وصول داعش إلى بوابة المنطقة الخضراء.
ما نريد قوله في هذا المضمار، إن النظام الإسلامي في إيران ومنذ أكثر من أربعة عقود من سيطرته على السلطة لم يستطع ترسيخ جذوره، وفشل فشلا ذريعا في تحويل الهوية الإسلامية إلى هوية اجتماعية للجماهير في إيران، وبعد مقتل مهسا أميني، تمزقت تلك الهوية، لتحل محلها في كل مكان هوية جديدة (امرأة، حرية، حياة)، وتعترف بها الجمهورية الإسلامية عبر حلها لشرطة الأخلاق التي قتلت أميني، فكيف للسلطة الميليشياوية الحاكمة في العراق، الذي فشل في فرض الهوية الإسلامية على المجتمع وفشل في الفوز بآلة الدولة والتي لا تملك منها سوى ميليشيات الحشد الشعبي غير المنسجمة ومتعددة الرؤوس والولاءات، ويضاف إليها تربص الإدارة الأميركية لها استخباراتيا وماليا، كيف لهذه السلطة تأمين بقائها!
وأكثر ما يضيف على اللوحة قتامة بالنسبة إلى الإسلام السياسي الحاكم في العراق، هي أن قواه السياسية ستواجه مصيرها بشكل منفرد، فهناك نقطة يجدر التوقف عندها، فالموقع الإلكتروني لـ”روسيا اليوم” نشر تقريرا لإحدى الصحف الأميركية، مفاده أن المسؤولين الإيرانيين يبحثون في عدد من البلدان مثل فنزويلا عن إمكانية الحصول على اللجوء السياسي إذا ما انهار النظام، والمعروف أن روسيا هي من الداعمين الدوليين للنظام الحاكم في إيران، وعندما تنشر مواقعها الرسمية الإخبارية مثل تلك التقارير، يعني أن شيئا ما سيحدث للنظام الإسلامي يلوح بالأفق، وإذا أضفنا إليه العقوبات الغربية الجديدة على إيران وخاصة الأوروبية، هو مؤشر آخر، أن دول العالم تعد نفسها لمرحلة ما بعد سقوط النظام الإسلامي، وحتى يمكن الإشارة إلى أن فتور الإدارة الأميركية حول التوقيع على الاتفاقية النووية أو عدم مبالاتها مقارنة بقبل أربعة أشهر على الأقل، للإسراع بالوصول إلى صيغة نهائية للاتفاقية، هي معطيات أخرى، تكشف عن عصر جديد سيفتح في إيران والمنطقة والعالم.
ما يجري في إيران، هو وراء هذا الركود السياسي الذي يخيم على الوضع السياسي في العراق، وهو الذي أعطى جرعة من الجرأة لأكثر انتهازي سياسي في هذا العصر محمد الحلبوسي رئيس البرلمان العراقي، بالحديث ولأول مرة أمام الإعلام، وفي مقابلة خاصة عن التطهير الطائفي والتغيير الديموغرافي الذي حصل في منطقة جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل جنوب بغداد منذ أيام داعش، فالحلبوسي وجماعته التي تسمى بـ”التحالف السني”، يشدون الرحال لمغادرة الخندق الموالي لإيران، والانتقال إلى خندق جديد، بعد تغيير اتجاه الرياح، وهكذا بالنسبة إلى الصدر وتياره الذي يخيم عليه الصمت، والقوى التي تسمي نفسها سنية والقوى القومية الكردية، جميعهم يجلسون في قاعة الانتظار، ممسكين بقبعاتهم فوق رؤوسهم خوفا من الرياح القادمة من الشرق.بالتحليل الأخير، أن الإسلام السياسي في العراق موجود كسلطة ميليشياوية، وليس كنظام سياسي ودولة وهوية سياسية، وقد ضاعت فرصته وللأبد في بناء دولته أو طرح بديل اقتصادي، وهو يعاني من أزمة بنيوية سواء كانت فكرية أو سياسية.
وإذا غضضنا النظر عن إيران التي فشل النظام الإسلامي فيها في الاندماج مع العالم الرأسمالي المعاصر، فإن أقصى ما ذهب إليه الإسلام السياسي من إنتاج فكري وسياسي في العراق هو ما جاء من منظرهم الوحيد محمد باقر الصدر في مؤلفاته (فلسفتنا، اقتصادنا، أخلاقنا)، والأخير يعاني من ارتباك وتشوش، وخليط غير منسجم، وكتب كمحاولة من أجل التصدي للهيمنة الفكرية والبديل الاقتصادي لماركس والتيار الاشتراكي على صعيد العالم.أي بشكل آخر نقول إن وضع الإسلام السياسي والحكومة التي جاء بها أكثر من هش، على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، وستتحول قريبا رايات المقاومة والممانعة والعنوان الجديد “الاستعمار” إلى راية للمهادنة والسلام وحسن الجوار والسلم المجتمعي.. الخ، من سوق الترهات التي يمتهن التبضع بها رموز الإسلام السياسي.وفي مقابل ذلك أن الإسراع برحيلهم، رحيل كابوس الإسلام السياسي، مرهون أيضا بتصعيد العمل النضالي ضد ذيول النظام الإسلامي في العراق.