يشكل الموجه القرائي الذي يجنس النوع الأدبي مدخلا صارما لكيفية تلقي ذلك النوع، وهو أحد المناصات التي تتجاذبه مكونات العملية الإنتاجية (المؤلف، النص، الناشر، القارئ) حسب جيرار جينيت، ويتم وضعه على الغلاف الخارجي لثلاث غايات: الأولى: تحديد النوع الأدبي الذي يقود إلى اليقين الثابت بوجود معايير، تحدد التصنيف، وتجهزه حسب ممكناتها القارة. والثانية: تغري القارئ في التواصل مع ذلك النوع على الرغم من خضوعه للطبيعة التجريبية في بعض الأحيان. أما الثالثة فتخص الناشر من أجل التسويق.وهو إما أن يأتي في أسفل الصفحة الأولى للغلاف، أو يكون موازياً لاسم المؤلف، أو يتوسط الصفحة، ونادرا ما يخالف هذه التموضعات الثلاثة.فهو فضلا عن فرضه ممارسة التواصل بين المؤلف والقارئ، يؤشر بقوة إلى التحولات النوعية: التحولات الكلية التي يتحول فيها المؤلف من كتابة نوع أدبي إلى نوع آخر، من مثل يتحول من كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، أو من كتابة المقالات إلى كتابة الشعر أو القصة…. وهكذا. والتحولات الجزئية (التحتية.) sup- genre التي تحدث في النوع الواحد، من مثل تحوّل القصة القصيرة جداً من نوع أعلى هي القصة القصيرة، وهذا ما يبقيها نوعا قصصيا. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن انعدام الموجّه القرائي على الغلاف أو الصفحات الداخلية لا بدَّ أن يحدث تشويشاً ما، وهذا ما يتعمده بعض المؤلفين، لا سيما عندما يكون الالتباس حادَّاً كما في الالتباس بين قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً.وسواء أكان المنتج الأدبي خاضعاً للموقف الذي يرى ليس من الضرورة أن يكون النوع معياراً للتقويم الأدبي ما دام التركيز على فاعلية المعطى الدلالي هو الأهم في دراسة البنى النصية، أو الموقف الذي يرى أن مشروع تجاوز الأنواع ما يزال محفوفا بكثير من العقبات والاعتراضات، فإن وجود متكآت لكل نص يستند إليها، تمثّل جملة من الخصائص التي تسمح بتجنيسه، وإدراجه ضمن نوع عام مهما بلغت درجة انتهاكه للقواعد الأولية لذلك النوع.إن الموجّه القرائي بوصفه مؤشراً تجنيسيا يشير إلى المنتج الأدبي منذ تمظهره كتابياً، ويبقى في تواشج مع أسئلة التجنيس وإشكالياته، بوصفه سؤال النظرية الأدبية التي مازالت تثار أسئلتها منذ أرسطو في كتابه (فن الشعر) وحتى الراهن النقدي الذي عني بالعتبات النصية، وفعّلها تنظيراً وإجراء، في تحديد الخصائص الفنية والأسلوبية للشكل التعبيري. غير أن التحولات المستمرة في الأشكال التعبيرية، أخضع التصنيف الثابت والجاهز للهتك النوعي أو التقويض الأجناسي، وهذا ما دفع بسؤال التجنيس لأن يأخذ الصدارة في تلك النظرية، عبر إشكاليات متعددة، منها إشكالية الموجه القرائي الذي يشترك في فاعليته كل من المؤلف والقارئ، فضلا عن دفعه إلى الراهن النقدي في كل تحوّل، سواء أكان على الصعيد النظري أو الإجرائي.
وقد شكّلت القراءة هاجسا قويا في هذه الإشكالية لما لها من دور فاعل في عملية تحليل النصوص وتأويلها، فضلا عن كونها مرتكزا أساسيا من مرتكزات النظرية الأدبية، عبر أسئلتها القارة والمتجددة في الآن ذاته، من مثل (ماذا نقرأ، وكيف نقرأ، ولماذا نقرأ).وتمثل هذه الأسئلة المتجددة في النظرية الأدبية امتدادا تفاعليا لأسئلة سابقة (ماذا نكتب، وكيف نكتب، ولماذا نكتب). ومن التقابل الكتابي/ القرائي تلحّ علينا أسئلة نقدية أخر (كيف نحلل ونفكك ونؤوّل؟) و (ماذا نحلل ونفكك ونؤوّل؟) و (لماذا نحلل ونفكك ونؤوّل؟). وهنا تتبلور لدينا استراتيجية تشكّل النوع بوجود أقطاب النظرية الأدبية (المؤلف/ النص/ القارئ) فضلا عن الناشر الذي يتولى عملية إخراج العمل إلى الوجود، وعلى أساس ما تقدم فإن الممارسة التجنيسية للنوع الأدبي تشكل المركز الذي تتجاذبه تلك المرتكزات المتعالقة معرفة ودراية بالأنواع الأدبية، إذ تفرض هذه المعرفة مع الدراية سلطات متجاذبة حينا، ومتعارضة حينا آخر، فالمؤلف يمارس سلطته لحظة كتابة النص للوصول إلى ذروة اللذة في الإبداع، وبمنتهى قدراته الإبداعية، والنص المغلق يفرض سلطته لعدم قبول أية تخمينات خارج حدود الوجود الدلالي، والنص المفتوح لا يمنح نفسه من دون التفاعل مع المصاحبات المتخيّلة من جهة، والمصاحبات الواقعية من جهة أخرى، وكلاهما يمنح القارئ لذة ما.
أما القارئ فيفرض سلطته المعرفية بدءا بالموجّه القرائي بوصفه أقوى مناص قصدي مرتبط بالمؤلف والناشر، فيبدأ بالفحص الدقيق لضوابط ذلك النوع، وينتهي بتفكيك مكونات النص الفنية للوصول إلى اللذة، في حين يفرض الناشر سلطته عبر البعد التجاري. ولكن لا وجود لجزم مطلق يتعلق بالاتفاق حول هذه السلطات، فمن النقاد من منحها للمؤلف عبر ما يدور في مداميك النص والقصد الدلالي الذي يتوخاه، وآخرون يمنحون السلطة للقارئ بوصفه منتجا لمعنى النص، ويبقى النص بينهما في حاجة إلى التثوير والمغامرة. لقد سقنا هذا الكلام التمهيدي للوصول إلى تحديد ما نقرأ، أي تحديد خصائص النوع الأدبي الذي نقرؤه وما علاقة الموجّه القرائي بتلك الخصائص، سواء أكانت قارة وجاهزة، ويمكن تشخيصها بسهولة أو متمرّدة وتتميز بصعوبة القبض عليها، وكثيرا ما تتعارض سلطة المؤلف مع سلطة القارئ في النوع الثاني من الخصائص، ومن النماذج التي تتضمن هذه الخصائص – على سبيل المثال لا الحصر- قصيدة النثر، القصة القصيرة جدا، قصة الومضة، الرواية القصيرة، القصة الطويلة … وغيرها. هذه الأنواع الأدبية قد خضعت للتحولات النوعية، إذ لم تعد نماذج ثابتة وجاهزة، أي أحادية الخصائص، بل انفتحت على الأنواع الأخر، وأخذت تتسع في تداخلاتها الأجناسية وهي تهيّأ المنجز الأدبي لمغادرة خصائص النوع الخالص، وشرعت تتملص من المؤشرات السابقة، وتتجه إلى مواثيق جديدة، نتعاقد بواسطتها على القوة التوجيهية الجديدة التي يصعب تجاهلها عبر قراءة النوع الجديد. وهذا ما جعل القارئ متيقّناً من أن الإجابة عن السؤال المركزي في النظرية الأدبية (ماذا نقرأ) يشكل التوطئة التي لا محيد عنها لتداول أي عمل أدبي، والتعامل معه تعاملا تجنيسيا.
وفي الختام لا بدَّ من التنويه إلى أن الموجّه القرائي بوصفه ميثاقاً عقدياً بين المؤلف والنص والقارئ، يعمل على الابتعاد عن التأويلات التعسفيّة التي تنحاز إلى هذا النوع من دون ذاك، ولكن مع كل التحديدات النوعية والمعايير القارة يبقى لإشكاليات التأويل حيّزا يوجّه النص، لا سيما عندما يفرض التجريب ارتباكاً وخلخلة في الأنواع عبر – نوعية حسب أدوار الخراط؛ وهي تتقبل الجماليات والأسلوبيات المغايرة. ويبقى سؤال الوعي بضرورة معرفة الخصائص الفنية للنوع الأدبي سؤالا مؤرّقاً، وما تمظهر تحديدات أجناسية متعددة إلا نتيجة تعالقات جديدة انصهرت بمنطق تطور النوع الأدبي وانفتاحه على الأنواع الأخر مرة، والسعي إلى الانفلات من سلطة المؤسسة النقدية مرة أخرى.