قبل أن تكون فناً إتصالياً وأداةَ بين مُرسِل ومستقبلٍ كانت الكتابةُ الادبية وظيفةً، لا تخرجُ عن دائرة الوعظ، ومهمةُ الكاتب فيها لا تفترقُ عن وظيفةِ الحكيم والخطيب، في الجماعة، فهو ملزمٌ بترسيخ القيم الأخلاقيَّة والانسانيَّة بين الناس، موكَلٌ بها، قائمٌ عليها بإذنٍ فوقيٍّ، سمائيٍ أو أرضي. الشاعر والكاتب فيها رسولان صادقان، وأمينان على القيم النبيلة، عبر ما يكتبان ويخطَّان من أشعار وقصص، كذلك كانت فنون الكتابة الأخرى، فهي فنون وظائفيَّة أيضاً، ولا يمكن حملها على أنها ترجمة للفكر ونقل للمشاعر، ذلك لأنَّ الخيال كان موقوفاً، بحكم الوظائفيَّة تلك، ولم يُعمل به بعد. الكتاباتُ تلك أمست من ماضي الكتابة، ودرساً أخلاقياً لا غير، أدَّى وظيفته، بعد أنْ قد أطاح الفهم الحديث للكتابة ومن ثم المدارس النقديَّة الحديثة بالكثير منها، هابطاً بها الى ما دونِ الفن ومنازله، حتى ليُنظر لها اليوم بوصفها تاريخاً، أو نقطة الشروع في فهم عالم سيتسع كثيراً بإعْمال الأخيلة والأفكار فيه. الأخيلةُ التي خلّصت الكتابة من أسر الوعظ والفضيلة، بعد أن انتشلتها من ركودها الطويل على الارض، آخذةً بها الى سماوات الروح، وبتعبير أدق، فإنّنا لم نلمس جمال وأسرار الحياة من حولنا إلا حينَ ذهب هؤلاء (الكتاب والشعراء..) بأقلامهم الى سبر أغوار النفس الانسانيَّة، والعيش داخل تناقضاتها، وتقبَّلها، بما فيها من (المحاسن والأضداد) بتعبير الجاحظ، بعد مطلق يقينها بأنَّ الكتابة الادبية من أفعال الحياة، وبقاؤها أسيرة الوعظ يعني الحكم عليها بالموت، ولا سبيل هنا لعقد المقارنات والمقاربات اللغوية في الأدب، لكننا نستلُّ جملة من كتاب لؤي حمزة (النوم إلى جوار الكتب):» فلا الأدبُ اليوم هو أدبُ ما قبل نصف قرن من الزمان، ولا العالم». ربما تُسعفنا ملحمةُ جلكامش بوضع تأريخ افتراضيٍّ للكتابة الإبداعيَّة، العمل الخالد الذي نأت الكتابةُ فيه عن كثير مما هو تدويني ومعاملاتي (وظائفي) الى كثير مما هو مفكرٌ فيه وتخيليٍّ، عبر نصوص تجاوزت هموم الانسان التقليدية في الحياة، الى المآلات الكبرى وما سيكون عليه في الحياة والموت، تلك الفكرة الجبّارة الكامنة والمتمثلة في بحث كلكامش عن عشبة الخلود، والعثور عليها، ومن ثم فقدها. الافكار الفلسفية هذه والإعمال المفرطة في الخيال هي التي تنقل الكتابة الادبية من جمودها في التعامل الى أدائها الكامن والمُتخَيّل، وهو بأدق تعبير محاولة في إنقاذها اللغة من الغرق، بتعبير لؤي حمزة عباس أيضاً. من نافل القول، وغير المعقول جداً أن يكون أولُ بيتٍ في الشعر قالته العرب هو بيت (عمرو بن الحارث الجُرهُمي) الذي قاله حين أُجْليَ وقومه (جُرْهُم)* عن مكة إلى اليمن، بعد حزنه على ما فارق من أمر مكة وملكها : «كأنْ لم يكنْ بين الحجونِ إلى الصَّفا – أنيسٌ ولم يَسْمِرْ بمكَّةَ سامرُ» ففي البيت هذا إعمال واضح للخيال، وتفكيرٌ بعيدٌ يتجاوز حدود الالم، جراء النفي والتغرّب، وفيه مشاعر انسانية عميقة، فلا وعظٌ ولا نصحٌ هنا. إذن، فالعربُ في القول والكتابة الابداعيَّة أسبق من البيت المفترض هذا بزمن غابر بعيد. ذلك لأننا أزاء مدينة عامرة، وانسان كامل المشاعر، أقام طويلاً فيها، فهو يسمر في الليل، ويتنقل في النهار، ولديه تاريخ متواتر، ويتجاذبه الشوق والحنين. في أيِّ قراءةٍ مستعادةٍ لِما قرأناه ذات يوم – نحن الذين تجاوزت أعمارنا القرائيَّة نصف قرن ويزيد- سنكتشف الهوّة العميقة بين ما كان مستفِزاً لنا من الكتب وأمسى بارداً، ساكناً، لا طائل من قراءته ثانيةً، اللهم إلا للِارتماس في نهر الزمن، تطهّراً من (آثام) المعرفة. أتذكرُ كتاب (العبرات) للطفي المنفلوطي، الذي حملتُه الى سريري وقد ضاقت الصروف بي، مقتفياً أثر الدمع، الذي أنفقته على أوراقه، في الليالي المستوحَشات تلك، فلا أقع على شيءٍ من ذلك. الآن، وبعد تعاقب السنوات، صرتُ أبحثُ في الكتابة عمّا يُقلقني، فالدمعُ درجة في الوعظ أيضاً. يكتب البرتو منغويل في مقدمة كتابه (المكتبة في الليل) «أشعر بمتعةِ المغامرة في تبديد نفسي وسط الأكداس الكثيفة.. وأنَّ أيَّ درجة حاضرة من الحروف والأرقام ستوصلني يوما ما الى الغاية المنشودة». *جُرهُم: قبيلة قديمة من السكان الأصليين لشبه الجزيرة العربية، نزلوا بـمكة عند هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام قادمين من اليمن.