كان يمكن أن يتحول العراق إلى ولاية أميركية لولا رؤوس أبنائه الناشفة. لقد فضلوا الوصاية الإيرانية على الولاية الأميركية. هم السبب في كل ما جرى عبر العشرين سنة الماضية. وليست الأحزاب التي حكمت العراق ولا تزال تحكمه بالعصا الطائفية اختراعا أميركيا بل إنها انبعثت من التاريخ العراقي المعاصر الغاص بالفتن الطائفية. فالعراقي طائفي وإن لم يعلن عن ذلك كما أن العراقيين يفضلون نفايات إيران السامة على حدائق الغرب النضرة. لذلك فإنهم حرموا أنفسهم من التمتع بمنافع الاحتلال الأميركي وقاوموه وألصقوا به جرائم ومجازر ضد الإنسانية ارتكبتها شركات أمنية جلبتها الولايات المتحدة مضطرة من أجل ألا يمعن الشعب العراقي في أخطائه ويكرر مهازله التي أبعدته عن الحضن البريطاني. غير أن كل ذلك لم ينفع فاختار الشعب العراقي السقوط في المستنقع الإيراني بدلا من ارتقاء مبنى أمباير ستيت في منهاتن.
كل هذه الهرطقات وسواها يمكن أن تُقال في تفسير ما يُسمى بالفشل الأميركي في العراق. بالرغم من الولايات المتحدة نفسها وهي التي تعهدت بنشر “الديمقراطية” في العراق لم تتعهد يوما ما، لا قبل الاحتلال ولا في خضم كوارثه بأن تقيم دولة معاصرة وحية في العراق ولم تعبر عن رغبتها في إنشاء نظام سياسي حديث ولم تكن مستعدة لوضع شركاتها في خدمة مشاريع تنمية، كان من الممكن أن تكون جزءا من برنامج إنقاذ ينتقل بالعراق من حقبة الحروب المتلاحقة إلى حقبة سلام، تكفي ثروته لتمويل كل ما تحتاجه تلك الحقبة من مقومات وعوامل تطور ورقي. لم تُخبر الولايات المتحدة العراقيين بأن قواتها جاءت محررة وكان الفتح الأميركي قد عبر عن أسوأ صور ترجمته الأهلية من خلال مجلس الحكم الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي ليكون صورة لنظام الحكم المستقبلي في العراق.
ولأن مجلس الحكم هو الإنجاز السياسي الوحيد لسلطة الاحتلال الأميركي فإن ذلك يعني أن كل ما شهدته الحياة السياسية في العراق عبر العشرين سنة الماضية هو من إنتاج الخيال الأميركي الذي أدرك في وقت مبكر أن ما من أحد من القوى الإقليمية يمكن أن ينافس إيران في الرغبة بإبقاء العراق دولة ضعيفة، منتهكة السيادة ومهددة دائما بنشوب حرب أهلية بين مكوناتها. وإذا كانت الولايات المتحدة قد رعت الحرب الأهلية الأولى التي وقعت ما بين عامي 2006 و2008 فإن في إمكان إيران أن ترعى حروبا أهلية لا نهاية لها وهي التي لا ترى في الحياة حسب تعاليم مؤسس جمهوريتها الإسلامية الخميني سوى مسيرة جنائزية.
تختلف الولايات المتحدة مع إيران في كل شيء إلا في المسألة العراقية. كل ما جرى في العراق عبر العشرين سنة الماضية هو تجسيد لتسوية أميركية – إيرانية. وليس من العقل أن يُقال إن إيران فاجأت الولايات المتحدة بحضورها الضخم في العراق. تلك كذبة ينبغي عدم تصديقها. لقد تم التمهيد للغزو الأميركي باتفاق مع إيران التي أكدت غير مرة أن ذلك الغزو ما كان من الممكن أن يُنجز لولا تعاونها. ولأنها تملك الكثير من الأسباب للانتقام من العراق ومن شعبه فقد كانت مساهمتها ضرورية بالنسبة إلى الغزاة الذين فتحوا حدود العراق لميليشياتها ما إن سقط النظام العراقي.
اليوم تضغط الولايات المتحدة على رئيس الحكومة العراقية الحالي من أجل خفض تبعية حكومته وليس العراق لإيران. يمكن البحث عن حلول في ظل تلك المقاربة المرنة. ليس هناك اعتراض على الهيمنة الإيرانية على العراق. الاعتراض يضع الحكومة وحدها موضع المساءلة وبالأخص على مستوى التحويلات المالية الصريحة التي تمر عبر نظام “سويفت”. دائرة يمكن الهروب منها من خلال اختراع سبل جديدة لتهريب الدولار إلى إيران وميليشياتها في لبنان واليمن وسوريا، ذلك لأن تعهد رئيس الحكومة العراقية لن يكون ملزما لقوى تحالف الإطار التنسيقي الموالية لإيران التي تدعمه في إطار التسوية الأميركية – الإيرانية.عشرون سنة مرت على الغزو ولم تكف الولايات المتحدة عن رغبتها في أن تُدير العجلة في العراق في مكانها. ما من إجراء حقيقي يمكن أن يضع العراق على طريق استقلاله ويفتح الباب أمامه لتأكيد سيادته التي صارت مجرد وهم. حين دق الأميركان جرس تهريب الدولار إلى إيران من العراق فإنهم قد حصروا العراق في دولارهم ولم يخفضوا من مستوى كراهيتهم للبلد الذي خاضوا فيه حروبا صغيرة ستظل تدينهم كما هي حرب الفلوجة.