علاقتنا، نحن العراقيون، بجيراننا الإيرانيين من القومية الفارسية، وليس من كل الإيرانيين، منذ أيام سومر وأكّد وآشور، علاقة مسمومة، مغمسة بالدم.وحين غزا الأميركيون بلاد ما بين النهرين عام 2003، وسهلوا لفئة من المتشددين الذين يُغلفون طموحاتهم القومية بالدين والطائفة، لم يكن مُستغربا ولا مستبعدا أن يبالغوا في إفقارنا وتمزيق وحدتنا، وتجهيلنا، وإذلالنا، ونهب خيراتنا، وتدمير مؤسساتنا، دون أن يفرقوا بين عراقي وآخر، حتى لو كان من أشقائهم في المذهب والطائفة والدين.من آخر تعدياتهم أن مدير سد دربنديخان سامان إسماعيل أعلن في تصريح لوسائل إعلام كردية، أن “عائدات المياه التي تم جمعها هذا الشهر كانت هي الأدنى في تاريخ السد، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، أهمها: أن 70 في المئة من المياه التي ترد إلى السد تقع في المناطق الكردية التابعة لإيران، ولكن بسبب بناء السدود التي أقامتها إيران، وتغيير الممرات المائية، لن تصلنا المياه”.
ومعروف أن ما ينبع في إيران ويصب في أنهار العراق ليس نهرا واحدا، بل أنها عديدة منها وأهمها نهر ديالى والزاب الصغير ونهر حلوان وكارون ودويريج والكرخة وكنجان، وهي أنهار عابرة للحدود تفرض الأعراف الدولية تقاسمها بالعدل بين الدول التي تمر بها.رغم أن الحكومة التركية أطلقت مياه بعض سدودها، في الأسابيع الأخيرة التي أعقبت الزلزال خوفا من تصدعها، إلا أن هذا الإجراء، رغم أنه موقوت بظروف الزلازل الطارئة، لم يكن هو الحل الأخوي المنشود.فقد دأبت إيران، منذ عام الغزو الأميركي للعراق في 2003 على إقامة سدود على منابع الأنهار الكبيرة التي تتدفق باتجاه العراق لتسيطر على مياهها، مثل نهر الزاب، وحوّلت مسار الأنهار الصغيرة لتبقى داخل الأراضي الإيرانية، الأمر الذي حرم العراق من حصته المائية، وتسبّب في جفاف الكثير من الأنهار، بينها نهر الواند في خانقين.
وإذا كان هذا هو حالنا مع جارتنا إيران، فما بال أشقائنا الترك الذين يسمحون لحكومتهم بتعطيش بلادنا والاستحواذ على حصصها من مياه دجلة والفرات؟فقد كشف تقرير أعدته منظمة المياه الأوروبية عن حقيقة مخيفة تقول إن “العراق سيخسر واردات نهري دجلة والفرات بشكل كامل بحلول عام 2040”.وذلك لأن تركيا أقامت مشروعا في جنوب شرق الأناضول أطلقت عليه اسم “GAP” يتكون من 22 سدا ضخما، منها 14 على نهر الفرات أهمها سد أتاتورك، و8 على دجلة أهمها سد إليسو الذي مكَّنها من حبس نصف موارد دجلة المائية، وجعلها تحتكر 90 في المئة من مياه نهر الفرات.
إلا أن حكومة رئيس الوزراء تركت أوزال عقدت في العام 1987 مع نظام حافظ الأسد اتفاقية منحت سوريا بموجبها 500 متر مكعب في الثانية من نهر الفرات، مقابل وعدٍ من حافظ الأسد بمنع مسلحي حزب العمال الكردستاني من نسف ذلك السد. لكنها رفضت عقدها مع العراق الذي لم يستطع أن يفعل شيئا للرد على هذا العدوان، وذلك بسبب انشغاله بحربه مع إيران، وبحكم حاجته الحيوية الملحة إلى تركيا كممرٍ لوارداته العسكرية والمدنية، آنذاك.ورغم أن الحكومة التركية أطلقت مياه بعض سدودها، في الأسابيع الأخيرة التي أعقبت الزلزال خوفا من تصدعها، إلا أن هذا الإجراء، رغم أنه موقوت بظروف الزلازل الطارئة، لم يكن هو الحل الأخوي المنشود.
وحين كانت العلاقة التركية – العراقية في أحسن أحوالها، في الأربعينات والخمسينات وتسودها روح الأخوة ومراعاة مصالح الطرفين، عقدت الحكومة العراقية والحكومة التركية معاهدة لتنظيم تدفق المياه في دجلة والفرات وروافدهما في 1946، وقعها رئيس الجمهورية التركية عصمت أنونو ونائب الملك في العراق الأمير عبدالإله، طلبت بموجبها حكومة العراق من تركيا إقامة سدود على نهري دجلة والفرات في أراضيها، وعلى نفقة العراق، لحبس مياه النهرين لحماية المدن العراقية من الفيضان، حين كانت الفيضانات هي الأخطر على العراق في الأربعينات والخمسينات.
نتمنى أن تقوم في الجارة إيران حكومة أخرى أكثر عدالة وإنصافا ومراعاة لحقوق الجيرة فتُصلح ما خربه الحرس الثوري وميليشياته الشريرة.ولكن هل يمكن اعتبار ما أقدمت عليه الحكومات التركية في السنوات اللاحقة عادلا ومنصفا ويراعي حقوق العراقيين في مياه دجلة والفرات وروافدهما؟ هذا هو السؤال.واستنادا إلى بيان أصدرته وزارة الموارد المائية العراقية فإن السلطات التركية “خفضت الإطلاقات المائية الواردة إلى العراق عبر نهري دجلة والفرات مما انعكس سلبا على معدل مناسيب الخزين المائي في البلاد”.وذكر بيان الوزارة أن “الانخفاض الحاصل في الحصص المائية في بعض المحافظات الجنوبية، خلال هذه الأيام، يعود سببه إلى قلة الإيرادات المائية الواردة إلى سد الموصل على دجلة، وسد حديثة على الفرات من تركيا، مما أدى إلى انخفاض حاد في الخزين المائي في البلاد”.
كما تراجع منسوب نهري دجلة والفرات في جنوب العراق. وفي مدينة الناصرية بات من الممكن رؤية قاع نهر الفرات عند الضفاف ودعامات الجسور العابرة للنهر.ووفقا لتوقعات مؤشر الإجهاد المائي، فإن العام 2025 سيكون عام الجفاف الشديد في عموم العراق، مع جفاف شبه كلّي لنهر الفرات، وتحوّل نهر دجلة إلى مجرى مائي شحيح.ويحاولُ بعض الأصدقاء الترك تهدئة خواطر العراقيين بأن الشعب التركي غير مسؤول عن السياسة المائية التي تنتهجها الحكومة التركية، ويَتوقعون أن تسفر الانتخابات التركية المقبلة في مايو – أيار القادم عن رحيل حكومة حزب العدالة والتنمية، ويعدون بأن الحكومة الجديدة لا بد أن تعيد النظر في مجمل السياسات السابقة، ولا بد أن تسعى للوصول إلى علاقة تفاهم وتعاون مخلصة بين الشعبين العراقي والتركي في جميع المجالات، ومنها وأولها السياسة المائية، لإصلاح ما خسرته عبر السنين الأخيرة.ومثلما نتمنى ذلك، بدافع محبتنا لتركيا وأهلها، نتمنى أيضا أن تقوم في الجارة إيران حكومة أخرى أكثر عدالة وإنصافا ومراعاة لحقوق الجيرة فتُصلح ما خربه الحرس الثوري وميليشياته الشريرة التي زرعت في قلب كل عراقي جراحا غائرة لا تندمل في عشراتٍ من السنين. وها نحن منتظرون.