من سرّ من رأى إلى ساء من رأى

من سرّ من رأى إلى ساء من رأى
آخر تحديث:

بقلم:د.ماجد السامرائي

تعرضت مدينة سامراء قبل أيام إلى حلقة جديدة من فصل التغيير الديموغرافي الذي قرره ولي الفقيه علي خامنئي عام 2003 على العراق لتمزيق أوصاله ولحمته الوطنية تنفذه أجهزته الإيرانية والعراقية العميلة الخائنة للوطن، وصل التنفيذ إلى صفحات سيئة لم تتوقف عند حدود الهيمنة الأمنية والميليشياوية في مدن العراق “السنيّة”، ونأسف لهذه التسمية، بل إلى فرض معطيات جديدة في مصادرة و”تفريس” هذه المدن.

السفير الإيراني السابق إيرج مسجدي خلال فترة عمله في العراق تصرف في جولاته ولقاءاته بأعوان نظامه، وبعضهم من السُنة، كجنرال حاكم لولاية فارسية هي العراق، ووضع خلال إحدى زياراته إلى سامراء اللمسات الأخيرة على خارطة التغيير الديموغرافي في المدينة عن طريق جلب مجاميع متطرفة في حقدها الطائفي من أهوار الجنوب، والاستعداد للمرحلة الجديدة بتحويل سامراء إلى محافظة شيعية بعد اقتلاعها من محافظة صلاح الدين.

قبل أيام ضمن خطة استكمال التشييع الفارسي، تمت مصادرة الجامع الكبير في المدينة من قبل ما تسمى العتبة العسكرية الشيعية، وتغيير اسمه إلى “صاحب الأمر” واقتلاعه من مرجعية الوقف السني، علماً بأن الاسم الحالي لا يرمز إلى أي إشارة طائفية.تحت الذريعة التقليدية في محاربة داعش سبق لهذه العتبة الشيعية وأجهزة أخرى يقول أهل المدينة إنها تابعة للحرس الثوري الإيراني، أن طردت أصحاب المحال التجارية المحيطة بمرقد علي الهادي، ومنعت دخولهم إلى مناطق عملهم، مما تسبب بخسائر مادية هائلة ألحقت ضررا كبيرا بالأهالي على مدى سنوات. كما أُجبر أصحاب ما يقارب أربعة آلاف بيت على بيع بيوتهم لنفس هذه الجهة. وفرضت حالة طوارئ مستديمة في المدينة منذ عام 2014، ومنعت دخول أبنائها المقيمين سواء لأغراض زيارة أسرهم أو قضاء المعاملات الرسمية أو دفن أمواتهم إلا بكفيل من داخلها، في تقليد بشع لعمليات تهويد الأراضي الفلسطينية المحتلة.

عام 2014 تم جلب أكثر من 300 عائلة من مربي الجاموس من مناطق الأهوار تمتلك نحو 10 آلاف جاموسة وأسكنوهم في المدينة، وترك هؤلاء المتوحشون حيواناتهم سائبة في شوارع المدينة مخلّفة القذارة والفوضى، بعدها صدر قرار من مجلس قضاء سامراء بترحيل مربي الجاموس على خلفية الأضرار التي لحقت بالبيئة فضلا عن العديد من الحوادث التي راح ضحيتها مواطنون.الخطوة الجديدة بالاستيلاء على الجامع الكبير وضمه إلى الوقف الشيعي استنكرت ورُفضت من علية القوم في المدينة من رؤساء عشائر ووجهائها.أهل المدينة الأصيلون كانوا عبر مئات السنين حزاماً آمناً لمقام المرقدين، حتى جاء عهد الاحتلالين الأميركي والإيراني، حيث تم تفجير المرقدين عام 2006 لفتح أبواب حرب طائفية ليصبح أهالي سامراء وقودها.

أستغل كوني عراقيا ابن مدينة سامراء لأستأذنكم بعرض سريع لبعض الحقائق التاريخية والانطباعات السريعة التي عشتها وعرفتها عن قرب، لكي لا يُستغفل أبناء الجيل العراقي الحالي وتمرر عليهم الأكاذيب حول تشيّع المدينة وكأنها حقائق.يعود اسم سامراء وأصله “سامرا” إلى سائر الأسماء الآرامية بالعراق التي كانت تنتهي بحرف الألف مثل “كربلا”، وفي مراحل تاريخية لاحقة من تاريخ اللغة العربية أضيفت علامة الهمزة إلى مفردتي سامرا وكربلا فأصبحتا سامراء وكربلاء. ويقول المؤرخ ياقوت الحموي إن سام بن نوح هو من بناها فنسبت إليه، فقيل “سام راه” وتعني طريق عبور ومرور سام بن نوح.بنى سامراء الخليفة العباسي المعتصم بالله عام 835 ميلادي، وتتردد قصة صرخة “وا معتصماه” كرمز لرفض العدوان والاحتلال والظلم، حيث تقول بعض الروايات إن رجلاً قدم للمعتصم ناقلاً له حادثة شاهدها في مدينة عمورية المحتلة من الرومان، قائلا: يا أمير المؤمنين كنت في عمورية فرأيت امرأة عربية في السوق تُسحل إلى السجن فصاحت في لهفة: وا معتصماه وا معتصماه.بعد سماع المعتصم هذه القصة استجمع جيشاً كبيراً وحاصر عمورية فاستسلمت، وزار المدينة بعد تحريرها والتقى بالمرأة فسألها: هل أجابك المعتصم؟ قالت: نعم.

تعرضت سامراء إلى غزوات واحتلالات بعد انتقال العاصمة منها إلى بغداد، خاصة الغزو المغولي وسقوط الدولة العباسية، آخرها الاحتلال الأميركي.أول محاولة اختراق فارسية باسم الشيعة لسامراء كانت من قبل الميرزا محمد حسن الشيرازي عام 1874 ميلادي، الذي أسس المدرسة الشيرازية في مدينة سامراء، وكان ينوي إعلان الدولة الشيعية من هذه المدينة. راح ينفق المال ببذخ على أهالي المدينة آملا في اجتذابهم إلى التشيع الإيراني، لكن محاولته فشلت. بقيت المدرسة التي بناها الشيرازي بعد رحيله إلى وطنه كالجسم الغريب في سامراء حتى عام 1991 حيث تم إغلاقها. لهذا يقول بعض المتطرفين الموالين للفرس مثل ياسر الحبيب بعد تفجيرات سامراء في فبراير 2006: إن تخليص سامراء من يد النواصب أولى من تحرير بيت المقدس من اليهود!

جعل الموقع المعنوي لسامراء أن تصبح مـحجاً للزوّار، من إيران خاصة، رغم أن جميع أهالي المدينة من السنة، وليس فيها سوى شيعي إيراني واحد أتذكره اسمه “ميرزا” استقر وترعرع في سامراء مذ كان طفلاً تركه والداه كجزء من النذر، وعاش في المدينة وكان هو الوحيد الذي لديه محل (تصليح المواعين والصحون والقوراي التي تسمى بالفرفوري) في سوق مُسقف سمي بسوق اليهود، لا أدري ربما لأن بعض اليهود من قاطني هذا الحي ورحلوا عام 1948.كنا في صغرنا نتطلّع بانبهار خلال زيارات مجاميع من الإيرانيين إلى تلك الوجوه الجميلة للنساء الإيرانيات التي تختفي خلف الخمار العبائي الخاص الذي انتقل إلى كربلاء والنجف. كانت ظاهرة غريبة علينا مرافقة شابات مع شيوخ وكهول. سألنا أهلنا، قالوا أولئك الفتيات هنّ زوجات مؤقتات لهؤلاء الكهول، يأتون معهم تحت مسمّى المتعة. وقد لاحظنا ونحن صبية نقضي وقتاً غير قليل للقراءة بجوار الملوية، أن تلك الفتيات كنّ يرغبن في التحدث إلينا، وإهدائنا بعض الهدايا الرمزية الإيرانية.

أتذكر شابة إيرانية برفقة كهل، طلبت مني مصاحبتها بصعود الملوية ورمي عباءتها من أعلى قمتها لكي ترى حظّها، آملة أن تستقر العباءة على الأرض مفروشة. اصطحبتها صعودا إلى قمة الملوية فرمت عباءتها. وبعد نزولنا على الأرض تعرفت على عباءتها من بين العباءات الأخرى التي كان بعضها مفروشا، فرحتْ كثيراً وأعطتني هدية (محبس من الفيروز الخالص) وقالت “إن الله أعطاني مرادي ووجهك جميل عليّ”. ولم أكن أفهم ما قالته لي، بعد عودتي إلى البيت نقلتُ الحادثة للمرحومة والدتي، فقالت: يحتمل أن هذه الشابة تحب أحداً.مشروع تفريس مدن العراق طائفياً خاصة مدن المراقد الشيعية ومن بينها سامراء، تديره وتنفذه جهات تابعة للحرس الثوري الإيراني. وكانت وكالة رويترز قد نشرت أواخر عام 2020 تقريراً استقصائياً صحافياً مهماً حول مشاريع إنشائية للعتبات الشيعية، تديرها شركات إيرانية متعددة من بينها مشروع التوسعة للحسينية في كربلاء، وكلفته 600 مليون دولار، تشرف عليه مؤسسة الكوثر المملوكة للحرس الثوري الإيراني. هذه المشاريع التي توسعت في السنوات الأخيرة لا تطلع عليها الإدارات الحكومية العراقية.

كانت الولايات المتحدة قد فرضت قبل شهور عقوبات على حسن بلارك صاحب مؤسسة الكوثر المشرفة على هذا المشروع وغيره، وهو أحد كبار الضباط في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني بتهمة تهريب السلاح.قالت وزارة الخزانة الأميركية في نص تبرير العقوبات التي فرضتها إن مؤسسة الكوثر “عملت كقاعدة لأنشطة المخابرات الإيرانية في العراق بل وشحن أسلحة وذخائر لجماعات الميليشيات الإرهابية المدعومة من إيران”.وقال وزير عراقي سابق مطلع على المشروع في تصريح لرويترز “صارت علاقة وصار توغل إيراني، دخلوا في الدولة العميقة، العلاقة العقائدية أكبر من العلاقة السياسية وهم يستخدمون السياسة الناعمة جدا”.وقال تاجر عراقي يعمل مع مؤسسة الكوثر إن كميات كبيرة من الصلب والأسمنت تستورد من إيران معفاة من الضرائب تحت غطاء مشروعات العتبات لكنها تباع عن طريق وسطاء في السوق العراقية.

سُجل لأهل سامراء كما شقيقتها الفلوجة شرف مقاومة الاحتلال الأميركي منذ ساعاته الأولى، فيما كان أدعياء التشيّع من المعممين وغير المعممين يستقبلون بالأحضان وقبلات الفرح قادة الاحتلال مثل دونالد رامسفيلد وكولن باول وغيرهما.لم تتمكن القوات الأميركية من دخول المدينة إلا بعد أن تكبدت خسائر فادحة، وبعد أن طُرد أحد العملاء العسكريين المنتسبين إلى المدينة وسبق أن هرب من بغداد، وبعد تجنيده للمخابرات الأميركية، تطوّع بأن يضمن لتلك القوات دخول مدينة سامراء، فيما نفذ زميل له من ذات مستنقع العمالة من عشيرة الجبور ذات الدور في الشرقاط ثم صلاح الدين. لكن أهالي سامراء الشرفاء منعوا العميل الخائن من دخول مدينتهم، وطورد لقتله لكنه هرب خائباً، ولم يتمكن من زيارة مدينته التي رفضته طيلة عشرين عاماً، حمل العار على جبينه حتى مماته في منفاه قبل شهور. وتبقى راية الشرف ترفرف عالياً على جبين المخلصين الوطنيين من أبناء سامراء الخالدة رغم ما دفعوه من أثمان شخصية باهظة قدموها بصمت بكل فخر واعتزاز لأهلهم وأبنائهم وأحفادهم.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *