من يتابع تعليقات الكثير من السياسيين والإعلاميين العرب حول الهدنة السعودية – الإيرانية يجد نفسه يتجول في جنات عدن، حيث عادت لها الخضرة والحياة بعد مغادرة حارقي النسل والضَرع بأمر من ولاة الأمر في طهران.القصة ببساطة خطوة سياسية سعودية حكيمة، ومغامرة يديرها ولي العهد الأمير الشاب محمد بن سلمان لتعطيل ماكنة التدمير المباشر والفوضى التي صنعتها طهران لإيقاف مشروعه السعودية 2030. كذلك المخاطر الأمنية المباشرة التي أخذت تهدد أمن بلاده وثرواتها وعمود اقتصادها النفط. المكان ضيق في هذه الخطوة للإستراتيجيات العامة ومبادئ الأخوة العربية وسياساتها أو الدفاع عن مصالح غير السعوديين، وهذه مسؤولية وطنية أولى للحاكم السعودي.
السعوديون والإيرانيون في هذه اللحظات مهتمون ومنشغلون كلّ ببراعة سياساته وقدراته على المناورة والتكتيك لتأمين سلامة الخطوات الأولية المشتركة، لا مكان فيها للآمال الواسعة، بل لإبعاد الأضرار المباشرة لحرب صراع العقائد والمذاهب التي أنتجها تاريخيا منذ أكثر من ألف عام صراع السلطة، وتُستحضر حالياً بنزعات طائفية فارسية يديرها نظام ولي الفقيه في طهران بحقد تاريخي يتقاطع مع الحاضر الإنساني، أصبحت له ميليشيات مسلحة خطرة لن يتنازل عنها موزعة في بلدان العرب المهمة والخليج العربي، خربّت وما زالت تواصل التخريب، أربع بلدان عربية ثلاث منها شكلت رموز النهضة العربية الحديثة، لا يتوقع أن يتنازل النظام الإيراني عنها، بل سيبتكر أساليب مخادعة هو بارع فيها.
أمن السعودية وحمايتها مسؤولية أولى لحكامها، ومن الذكاء الدخول في سياسة البدائل الإستراتيجية الحاضرة أمامهم والقادرين على إدارتها بعد أن اكتشفوا أن واشنطن، خاصة في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، ابتعدت كثيراً عن التزاماتها السياسية والأمنية مدفوعة الثمن للرياض، في كل يوم يطلع علينا هذا الرئيس بخطوة تعزز صحة سياسة الرياض في ترتيب علاقاتها الخارجية مع بلدان مثل الصين وروسيا.
أخيراً قال تقرير أميركي إن الولايات المتحدة سترسل طائرات هجومية قديمة من طراز إيه 10 لتحل محل الطائرات القتالية الأكثر تطورا في الشرق الأوسط، وذلك في إطار جهودها لنقل المزيد من المقاتلات الحديثة إلى المحيط الهادي وأوروبا لردع الصين وروسيا. ليقول بايدن لإيران “أنت حرة”، ولتختفي نظرية تخويف العرب من إيران.
في اللحظات الحرجة الحالية الامتحان الكبير لإيران أمام السعودية تخلّيها الحقيقي الجاد عن الميليشيات الحوثية للوصول إلى حل سلمي عادل للملف اليمني. ومع شيوع نظرية الإيحاء بعدم وجود غطاء إيراني لفوضى جرائم الحوثيين تجاه شعب اليمن المظلوم، وضد السعودية، فإن الترويج الجديد أن جماعة الحوثي لا تلتزم بالأوامر الإيرانية ولديها استقلاليتها في إمكانيات التوصل إلى حل سلمي. بعد أسبوع من توقيع الاتفاق شنت ميليشيات الحوثي هجوماً واسعاً على جنوب مأرب تحت ذريعة الحصول على مكاسب لوجيستية قبل أيّ تهدئة قد يفرضها الواقع الجديد بين الرياض وطهران وفق المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن الدولي عام 2016 وإعادة السلاح المنهوب إلى الدولة اليمنية المعترف بها دولياً.
في ذات الوقت، حتى وإن تمت التهدئة وظل عصب علاقة القيادة الحوثية مع النظام الإيراني موصولاً وهو كذلك، يتوقع بقاء تهديدهم لحركة الملاحة وعبور شحنات النفط عبر البحر الأحمر الذي يبذلون كل ما في وسعهم للتحكم فيه تحت أنظار الأميركيين، وفي ظل مراقبة غير فعّالة لصد تهريب الأسلحة الإيرانية إليهم.
يحاول المسؤولون السعوديون حصر مشكلة أمنهم الوطني عن طريق وضع التزامات الطرفين السعودي والإيراني برعاية الصين في ملف الحل اليمني. حتى لو تحقق ذلك، فحقل الاختبار الحقيقي سيكون في العراق، فالطائرات المُسيّرة التي أطلقتها الميليشيات الموالية لطهران استهدفت منشآت نفطية سعودية عام 2019 والقصر الملكي في الرياض انطلقت من العراق.
المعلومات الحالية الموثقة تشير إلى أنه رغم التوقيع الأولي لاتفاق بكين فإن شبكة الميليشيات الشيعية التي يديرها الحرس الثوري الإيراني في العراق هي الآن على مقربة من الحدود السعودية – العراقية تحت شعار “نقل المعركة إلى أرض آل سعود”، على حد تعبير أحد قياديي ميليشيات كتائب حزب الله العراقي. وتصريح آخر أنهم في حل من أيّ اتفاقية سعودية – إيرانية. معروف أن انقسام الفصائل الولائية في العراق درجات في تطرفها، ما بين تلك الممتلكة لمزايا سياسية في السلطة ببغداد وقد تهدئ تصريحاتها مثل “الاستثمار السعودي في العراق هو استعمار” لفترة قصيرة محسوبة، وأخرى غير مقيدة ستظل مخاطرها قائمة.
يعتقد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن العراقيين من السذاجة أن يمرّر عليهم خبر إيعازه بشتل مليون نخلة في هذه المنطقة الصحراوية الممتدة قرب الحدود السعودية، في ظل قتل الملايين من نخيل العراق جنوبي العراق، وشح المياه والتصحر. في حين حقيقة خبر السوداني حسب ما ذكرته مواقع التواصل الاجتماعي العراقية ستتحول شبكة النخيل المزعومة غطاء تختفي تحت ظلاله قواعد انطلاق الصواريخ والمُسيّرات الموجهة للسعودية.
في هذا الوقت لا يتوقع السعوديون والإيرانيون من العراقيين أن يطبّلوا ويهللوا للخطوات الأولى من الهدنة بين الطرفين المتنازعين، مع أن الرياض وطهران غير مهتمتين في هذه اللحظات الحساسة بالاستماع لمواقف العراقيين أو السوريين أو اللبنانيين. ما يهم العاصمتين اليوم، وهذه من أولويات مصالحهما الخاصة، العمل الدقيق والحساس لانتظام سير العجلة المنتفخة بالمفاجآت إلى انفراجات أولية عملية خاصة في ملف اليمن المعقد.
لا نحتاج للتذكير بحقيقة أن السعوديين حكاماً وشعباً أمس واليوم وغداً، أشقاء للشعوب العراقية والسورية واللبنانية التي تحملت آثار العداء الفارسي للعرب بدمائها وخبز عيشها وحريتها، كما أن الوزن المعنوي للنظام السعودي عند عرب المنطقة والمسلمين في العالم خال من مشاريع تغيير الأنظمة أو الهيمنة على سياساتها وتغييرها، مثلما عليه المشروع الخميني بعد عام 1979 في “تصدير الثورة” حيث تحقق المشروع في عراق ما بعد 2003 أولاً، ثم تلته سوريا ولبنان واليمن من خلال وكلاء نظام طهران.
خصوصية حال العراقيين كشعب تجاه السعودية وإيران فيها من صفحات التاريخ المليء بالآلام خصوصاً خلال العقدين الأخيرين، ما يضعه في وضع غير المتحمس لما يجري اليوم من تطورات، تبدو في الظاهر وفي الإعلام الشائع أنها ستترك آثارها عليه، ونحن نتمنى ذلك، لكنها ستكون بعيدة عن مقتربات تخفيف الآلام عن أمهات أكثر من أربعة ملايين يتيم عراقي جائع وتسعة ملايين إنسان تحت خط الفقر، ولن تعيد المهجرين إلى ديارهم، وذلك بسبب هيمنة طهران عبر وكلائها. ليس في الأجندة السعودية ملف العراق المدمي.
من حق العراقيين أن يتساءلوا بألم وحسرة بعيداً عن قصة اليمين الأميركي المزوّرة: لماذا دفعوا فاتورة انتمائهم العروبي، وتركهم العرب، ومن ضمنهم دول الخليج، وحدهم يواجهون غزو الولايات المتحدة البربري عام 2003، وتحملوا وما زالوا حقد نظام خامنئي عليهم والانتقام منهم لأنهم دافعوا عن شعوب بلدان الخليج العربي، حين تحولت أجساد الألوف من شبابهم سداً منع تدفق فيلق القدس الإيراني إلى الكويت ودول الخليج العربي، خاصة في معركة شرق البصرة عام 1985 خلال الحرب العراقية – الإيرانية.
أُتهم الغالبية من العراقيين طائفياً بأنهم “أذناب للسياسات السعودية”، وهم في الواقع ليسوا كذلك. معروف أن السعودية لم تدعم المقاومة المسلحة العراقية ضد الاحتلال الأميركي، لو كانت فعلت ذلك لما سكت الأميركان عن لومها، مثلما اتهموا دمشق بتسهيل دخول المسلحين إلى العراق.
نتذكر إن نوري المالكي رئيس وزراء العراق وجّه اتهاماً مماثلاً لنظام بشار الأسد بعد هجمات بغداد أغسطس 2009، وطالب مجلس الأمن الدولي بالتحقيق بما سمّاه تفجيرات قادها “زعماء حزب البعث انطلاقاً من سوريا”، ووصف في حينه الرئيس السوري الاتهامات العراقية بأنها “غير أخلاقية”. المالكي هذه الأيام يحاول صناعة لعبة “البعث” بعد تحضيره لموال دفين لطهران جاء وقته الآن.
نتذكر تطور علاقات الرياض بالقادة الشيعة العراقيين، مثال ذلك زيارة الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر نهاية يوليو 2017 إلى السعودية والتي التقى خلالها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ومدحه وسط حملة سوداء من الولائيين.
هل سيوقف الاتفاق السعودي – الإيراني حملات الحرس الثوري الإيراني عن طريق وكلاء الولي الفقيه في تغيير ديموغرافية المدن العراقية بسلاح الميليشيات، واستثمار الفرص والأغطية كغطاء “داعش” لطرد أبنائها ومصادرة مساجدها ومدارسها الدينية وتشييعها ومثال ذلك ما يحصل اليوم في مدينة سامراء؟
لا يتوقع أبناء العراق توقف الحملة الطائفية المحمومة التي تتهم العرب السّنة في العراق خاصة بالنواصب، كما تحمي الحكومة وأجهزتها وتغطي أعداداً ليست قليلة من المعممين الطارئين على التشيّع بحملات تخريب للمجتمع العراقي مسنودة إعلامياً، وتستهدف الهجوم الطائفي الرخيص على خلفاء الرسول محمد (ص)، مثل عمر بن الخطاب وأبوبكر الصديق. أمثلة كثيرة غيرها تؤكد أن هيمنة النظام الإيراني في العراق تتعلق باستمرار هذا النظام على قيد الحياة، لا تلغيها اتفاقية توقعها مع السعودية. والقصة طويلة.