كان من الممكن أن تُحدث تلك الانعطافة تغييراً كبيراً في المشهد السياسي العراقي، حتى إنها كان من الممكن أن تمحو تلك الغوغائية في السلطة ومحاولات استئثار الأحزاب الحاكمة التي ظلت تُمسك بزمام السلطة طوال العشرينية بعد عام 2003، في توصيف لا يقل تشبيهاً عن دكتاتورية من سبقهم، وللوهلة الأولى أحدثت قضية دخول مستقلين إلى عالم السياسة من خلال صناديق الاقتراع حدثاً إيجابياً في أعين الشعب وأمنيات خجولة تترجّى من هؤلاء المستقلين إمكانية التغيير حتى وإن كان جزئياً، لكن الغريب والأدهى أن تلك الموجات المنسابة من التغيير المزعوم قد عزّزت السلطة القديمة وثبّتت ركائزها وزادت من قضم الأحزاب الماسكة بالسلطة من قوة النهم والانقضاض.أكبر خديعة واجهت انتفاضة تشرين التي اندلعت ضد الفساد والانحطاط السلطوي وانهيار الدولة التي كانت تتمثل في حكومة عادل عبدالمهدي، جعلت الأحزاب الماسكة بزمام السياسة تُعيد التفكير بوضع كاريزما جديدة للمشهد السياسي في العراق، وبدايات جديدة وعناوين براقة في محاولات خداع الرأي العام من خلال إعلان حُسن النوايا والسماح لهؤلاء المنتفضين بتشكيل أحزاب وكيانات تستحوذ على بعض المقاعد (اليتيمة) تحت قبة مجلس النواب، حتى كانت المفاجأة والخُدعة الكبيرة التي وقعت فيها تلك الأحزاب الناشئة بأنها ظلت في مستويات الحدود الدنيا من السياسة يرافقها عدم التوفيق في الاختيار والوضوح بالوصول إلى الهدف، وربما أوقعت نفسها في خطأ اختيار المكان والزمان المناسبين لقرارها.,المحصلة أصبحت تلك الكيانات الناشئة لا تعدو كونها دعايات انتخابية لأحزاب السلطة الموغلة في المشهد السياسي وأقنعة تختفي وراءها ألوان من قوس قزح السياسة المقيتة التي قرف الشعب من تكرار وجوه أصحابها، بل إن بعضها أعطى صكوك الغفران لأحزاب السلطة بالتمادي في الغي والفساد.
لم تنتصر تلك الأحزاب الوليدة على عُتاة الطبقة السياسية التي كانت دائماً ما تُغيّر ألوانها كما تعمل الحرباء، ظناً منها النجاة من خديعة الشعب وتفعيل نظرية المؤامرة، بل انسابت معها في الإيغال بالإفساد وممارسة السلطة التي خرجت من أجل إسقاطها، لتكون المحصلة هدنة للطرفين تُنفّذ وفق شروط الانتفاع حتى ولو على مصالح الشعب الذي تفاءل ولو مؤقتاً بهم. كانت المحصلة أنه كلما استلزم الموقف المأزوم الخروج بأقل الخسائر أو خلق انتصارات وهمية يتم التلويح بهؤلاء أكباش فداء لعناوين الديمقراطية المزيفة التي تتبجّح السلطة بهم، ليظل أكل الدولة ومضغها كما هو لم يتغير.
الأحزاب الناشئة التي قامت بفعل انتفاضة تشرين لا تعدو كونها اليوم مفرقعات نارية تُطلَق في المناسبات أو إكسسوارات السلطة التي تتبجّح بهم وتتغنّى بالديمقراطية التي فتحت أبوابها لهم، عندما كان ينعتها البعض بأنها تخلو من ألوان الطيف الديمقراطي.الأحزاب والتيارات التي تشكلت أو تآلفت بفضل انتفاضة تشرين واحتلت مقاعد بسيطة تحت قبة البرلمان، أصبحت لا تعدو كونها كالمُعلّقة بين السماء والأرض، فلا هي استطاعت أن تُرضي طموح الشعب وتُحقق له ذلك التغيير المنشود، وفي ذات الوقت لم تستطع أن تكون ذلك الرقم الصعب في المعادلة السياسية بالعراق لتظل كما بدأت على الهامش.من قال إن أحزاب السلطة تعتريها الرغبة بالتنازل ولو عن جزء بسيط من الكعكة؟ من يظن أن هؤلاء الذين أُوغلوا في التسلط سيتركون ولو كان الفُتات لغيرهم؟ ومن يظن أن الأحزاب التي انتشت بالسلطة ستتنازل عن نفوذها وسلطانها ومصالحها؟ من كان يعتقد ذلك فهو واهم ومن المؤكد أنه يعيش في عالم الخيال الذي يجعله يعتقد أموراً ليست على أرض الواقع.