لو اكتفت الأحزاب الشيعية المرتبطة بنظام الولي الفقيه الإيراني بهيمنتها وانفرادها بقيادة الحكم في العراق، والتمتع بنهب الثروات وحرمان المواطنين من حقوقهم العامة الحقوقية والمالية، لكانت الكارثة أهون مما أصبحت عليه بعد أن ولدت ونشطت منذ وقت مبكر (عام 2005) المافيات السياسية كوليد غير شرعي وشريك مصيري لمافيات الفساد.
لا توجد دولة في العالم تشرعن الفساد بصورة علنية من خلال قوانين نافذة، بل على العكس فإنّ الدول عادة ما تسنّ قوانين تحدّ من الفساد وتحاربه. الفساد يفتح الطريق أمام الإثراء على حساب المال العام، وهو بوّابة النهب المنظّم لثروات الناس. في البلدان التي يهيمن الفساد فيها يكون الفاسدون، وهم على الأغلب من عصابات جريمة منظّمة، بحاجة إلى غطاء رسمي لممارسة فسادهم وسرقاتهم وابتزازهم وتحكمّهم بمفاصل الاقتصاد والمال. لذا ترى زعماء هذه العصابات يدخلون الحقل السياسي من الباب الخلفي بدعمهم لشخصيات سياسيّة مستقلّة أو أحزاب سياسيّة ليصلوا إلى قبّة برلمانات تلك البلدان، فتصبح لديهم الحصانة التي تمنحهم حريّة الحركة وعقد الاتفاقات الاقتصادية مع الشركات الوطنية والأجنبية مقابل عمولات ضخمة، أو أن ترسي عقود المشاريع برمّتها على زعماء الأحزاب السياسيّة ورجالاتها.
تتحدث الوقائع عن تاريخ إجرامي حيث احتمت عصابات القتل والإجرام الشيعية في الأهوار بعيدا عن السلطات العراقية، وسبق أن أشرف عليها الحرس الثوري الإيراني خلال الحرب العراقية – الإيرانية. كانوا معروفين بتهريب المخدرات القادمة من إيران إلى بعض دول المنطقة عن طريق بادية السماوة الصحراوية جنوب العراق، ونفذوا جرائم قتل مئات العراقيين وحرق وتخريب سجلات وموجودات الدولة العراقية عام 1991 في أغلب المحافظات الجنوبية. إلا أنهم بعد الغزو الأميركي جاؤوا إلى بغداد بصفة معارضين سابقين لنظام صدام حسين.
فتحت الأبواب أمام هذه المجاميع المسلحة تحت أغطية متعددة “كالمجاهدين”، لتتحول من مافيات القتل إلى مافيات سياسية دخل بعضها البرلمان العراقي بعد عام 2006 ولم تعد بحاجة سوى إلى قادة سياسيين شيعة وجدوا في هؤلاء أدوات ومساعدين لمخططات فسادهم رغم عدم تخليهم عن نزعاتهم الإجرامية التي أصبحت ساحاتها الطائفية ميسرة في القتل والاختطاف ونهب المال العام.
جمهورية الفساد ومنظوماتها المافيوية بعد أن ترسخت وقويت بعد العام 2006 أصبح لأبطالها القدرات السياسية والفنية على الانتقال من عصابات الجريمة المنظّمة التقليدية إلى منظومات نهب المال العام بمستويات عالية، وبدرجات هستيرية لا مثيل لها في العالم، لخصوصية العراق في كثرة موارده المالية عبر الثروة النفطية.
حظيت ولادة المافيات السياسية في العراق برعاية ودعم نظام الولي الفقيه الإيراني الذي لم تتناقض قواعد سلطته الداخلية ومشروعه في تصدير الثورة مع قواعد المافيات العالمية. استنبط هذا النظام مثلا قاعدة الحفاظ على المنظومات التنظيمية السّرية وصرامة الطاعة العمياء في تنفيذ الأوامر السياسية والأمنية وتحويلها إلى وصايا وكيل الإمام المنتظر واجبة التنفيذ.
الجانب الأخطر ما قدمته التفسيرات الفقهية الشيعية الحالية من جواز الهيمنة على الثروات الطبيعية، كالنفط أو الأموال العامة، باعتبارها أموالا سائبة يجوز التصرف بها بعد دفع ما يسمى حصة المرجع الشيعي “الخمس”.
ما يميّز العصابات المسلحة في العراق هو تمتعها بحماية الحكومة الإيرانية المهيمنة على العراق التي أنشأت هذه العصابات وقامت على رعايتها والإشراف عليها من خلال جهاز الحرس الثوري المهيمن على نشاطات إيران في الخارج. من أمثلة هذه الرعاية والإشراف التام حل المنازعات والصراعات بين هذه العصابات، من خلال تدخل السفير الإيراني أو أحد قادة الحرس مثل إسماعيل قاآني بعد موت الجنرال قاسم سليماني، للقيام بعملية ضبط وإعادة توازن للعلاقات وتقسيم المنافع بين قادة العصابات، ما يحول دون وصول النزاعات بينها إلى حرب مفتوحة قد تضعف من نفوذ تلك المافيات وفي النهاية نفوذ النظام الإيراني.
في العراق أحيانا لا تتم صفقات التوافق بين الأطراف المنتفعة خصوصا تلك المنتمية إلى خلفيات سياسية طائفية متناقضة، وقد يهدد طرف من الأطراف بفضح حلقات خطيرة من تلك الصفقات بما يؤدي إلى قرار إبعاد الطرف المهزوم عن الساحة المباشرة، أو تصفية المُهدد قبل تنفيذ تهديده. هذا ما حصل لواحد من الفاسدين، رئيس الوقف السني سعد كمبش، المدان بسرقة الملايين من الدولارات، ظواهر سير الأحداث من هروبه من السجن المُحصن المُراقب بالمنطقة الخضراء حتى وفاته بعد ساعات قليلة من المطاردة في ضواحي مدينة الموصل، تشير إلى تصفيته جسديا كواحد من مافيات الفساد قبل أن يفضح الآخرين.
الظرف العراقي بجانبيه الفقهي والسياسي وفّر للمافيات فرصة التوافق والتخادم ما بينها وبين نظام الحكم وقادته السياسيين، وألغى الحقيقة التاريخية للصدام العنيف. مثلا لو راجعنا السجل التاريخي لمافيات صقلية لظهرت لنا بوقت مبكر بديهية التصادم بينها وبين النظام ومؤسسات الدولة.
أفراد عصابات المافيا بالعراق ليسوا بحاجة يومية دائما إلى دعم الأحزاب السياسية بعد أن تحوّل كثر منهم إلى زعماء سياسيين برلمانيين، حقيقتهم قادة أو فاعلين في الميليشيات الولائية، قادرين على تنظيم وترتيب سرقاتهم ونهبهم للمال العام بالتجاوز على القوانين، وإبرام عقود وهمية بالملايين من الدولارات والحصول على عمولات بأرقام فلكية من خلال عقود بشروط مجحفة بحق ثروات الوطن. عوائل وأفراد عصابات المافيا في البلد محصنّون من المساءلة القانونية، والقضاة يجدون لهم دوما مخارج “قانونية” لبقاء سلطة الهيمنة السياسية، مثل تفسير الكتلة البرلمانية الأكبر حسب الظرف والجهة المطلوب فوزها.
أغلب قضاة العراق المستقلين يتملكهم الخوف على أنفسهم وعوائلهم في ظل غياب الحماية الحكومية. فالجرأة الشخصية لوحدها لا تكفي لاستخراج الموقف العادل بوجه المافيا العائلية والسياسية التي تقود البلاد إلى الهاوية. تم قتل أكثر من قاض عراقي بسبب قرار عادل ونزيه بقضايا فرعية بسيطة. لا ننسى مثال القاضيين الإيطاليين جيوفاني فالكون وباولو بورسيلينو، اللذين تمّ اغتيالهما من قبل المافيا الإيطالية. لكن ذلك المثال أكسب القضاء الإيطالي فيما بعد مكانة الشرف والانتصار للعدالة.
دخلت مفردة “المافيا” في قاموس القيادات السياسية الحاكمة، خاصة من يعتقدون أنهم في حالة تنافس وصراع من أجل السلطة داخل المكوّن الطائفي ذاته. لا نستغرب تحذير حيدر العبادي رئيس الوزراء السابق بعد خروجه من منصبه من سيطرة المافيا على السلطة في العراق. قد يكون هذا التصريح في إطار الصراعات السياسية بين القادة الشيعة، وقد ينصرف تفكير المتحدث إلى الميليشيات المسلحة حيث يتقارب الوصفان من بعضهما في سجل العملية السياسية البائسة.
مع ذلك غطى أو ضيّع حيدر العبادي حين كان رئيسا للوزراء، على مكان ومصير الفدية المالية القطرية المليارية التي أعطت صورة لممارسة كيان الدولة الحاكمة في العراق لدور الوسيط أحيانا بين العصابات المسلحة المسيطرة عليها وبين الأطراف الأخرى ذات العلاقة معها، حيث تدخلت الحكومة العراقية لتقوم بوظيفة رعاية عملية نقل الأموال القطرية وصولا إلى جيوب قادة العصابات والجهات الراعية لها في إيران. لكن أخبار تلك الجريمة تم حذفها من قائمة الجرائم المافيوية الكثيرة كالتي سميت “سرقة القرن” التي كُشفت لأسباب فنيّة ليست مبدئية، يحاول البعض جعلها غطاء سميكا للانتهاكات الأخرى.
عادة ما يتحول قادة المافيات بعد تقاعدهم إلى النشاطات العامة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعد غسل أموالهم وتزيين تاريخهم، أما زعماء المافيا في العراق فقد فاقوا أقرانهم في كل مكان وزمان، إذ أنهم اليوم يتصدرون المشاهد كافة أهمها المشهد السياسي فيظهرون بصورة “المقاومين للاحتلال الأميركي” و”المحاربين للإرهاب” ويتولون أرفع المناصب الحكومية، ويحملون جوازات السفر الدبلوماسية، ويملكون الاستثمارات العامة داخل العراق وخارجه، بل ويتمتع الكثير منهم بالجنسيات الأميركية والأوروبية.
تمتلك تلك القوى المسلحة الصفة الشرعية والقدسية اللازمة لتكون فوق القانون وخارج سلطة الدولة، يكفي أن تكون تحركات بعضهم في بغداد بسيارات حديثة رباعية الدفع وبلا أرقام وعليها شعارات طائفية وبمقدورهم الدخول لأي مكان تتخيله حتى مكاتب الوزراء وكبار المسؤولين.
أصبح العراق في ظل زعامة الفاسدين يعيش أعلى مستويات جرائم بيع المخدرات وزراعتها في بعض المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات المسلحة. ويقال إن من بين أسباب منع عودة أهل الصخر إلى مدينتهم كونها تحولت إلى معامل لإنتاج الحشيش والكوكايين. خطر توزيع المخدرات بأنواعها المختلفة مثل ما يسمى “الكبسلة” داخل الكليات والمعاهد العراقية والأقسام الداخلية بعد ارتفاع مستويات تعاطيها من قبل البنات.
في عراق اليوم ترتفع نسب عمليات خطف الأطفال. كشفت تقارير استخبارية عراقية أن قوات الأمن ألقت القبض على عصابة ناشطة في مجال خطف الأطفال من أبناء الأثرياء والمساومة عليهم لقاء مبالغ مالية ضخمة. وبحسب تقارير أميركية فإن التحقيقات مع أفراد تلك العصابة أثبتت أنها تدار من قبل نائب في البرلمان العراقي وقيادي في ميليشيا شيعية مسلحة من بين أحد القيادات الفاعلة فيما يعرف بـ”فرق الموت الشيعية” المتهمة بعمليات اغتيال لعلماء سنة وشخصيات أكاديمية وضباط سابقين في الجيش العراقي.
المقياس الرئيسي لقدرات أي رئيس وزراء ونجاحه ليس بكثرة التصريحات، فقد شبع العراقيون منها مما زادهم أحزانا وإحباطا. المقياس الحقيقي هو في الإجراءات الفعلية لمجابهة كارتل المافيات السياسية الخطيرة وكشف جرائمها وإبعاد قادة الأحزاب عن التدخل في برنامج الكشف عنهم، وإحالة السراق إلى العدالة النزيهة واستعادة أموال العراق، حينذاك سيدخل واقعيا في طريق القائد الوطني الشجاع، وهذا ما لم يحضر في المشهد السياسي العراقي إلى حد الآن.