انفجر الموقف بالسودان بين الجيش و«قوات التَّدخل السَّريع»، شُكلَت هذه القوات في حرب دارفور(2003)، لمساندة الجيش السّوداني، لكن بعد انتهاء الأزمة، صعب حلها، حتَّى صار لها دور في التغيير العام (2018). لم تصدر فتوى «جهاد كفائي» بالسُّودان، ولم تُسم تلك القوات بالمقدسة، فالمقدس فوق المساءلة والطَّعن.
ظهر قائد قوات التَّدخل السَّريع كأحد أبرز قادة التغيير بالسُّودان، الذي فضح الرّئيس المخلوع بما نُسب إلى الإمام مالك بن أنس(ت: 179هج)، إباحة قتل الثلث مِن أجل الثلثين. قال البشير برواية محمّد حميدتي: «نحن مالكيَّة، والمالكيَّة عندهم فتوى قتل الثُّلث، وتخلي الثّلثين يعيشون بأمان أو بعزة، والمتشددون منهم تقتل الخمسين بالمائة»(فيديو على النت). اتضح أنَّ تلك الفتوى مدسوسة على الإمام، بُثت بنزعة مذهبية، في كتب الأشاعرة، ذكرها أبو المعالي الجوينيّ(ت: 478هج)، ونقل عنه تلميذه أبو حامد الغزاليّ(ت: 505هج): «إنَّ مالكاً لما زل نظره، كان آثر ذلك تجويز قتل ثلث الأمة، مع القطع بتحرز الأولين عن إراقة محجمة دم، مِن غير سبب متأصل في الشَّريعة، ومنه تجويزه التأديب بالقتل، في ضبط الدولة وإقامة السياسة، وهذا إنْ عهد فهو مِن عادة الجبابرة، وإنما حدثت هذه الأمور بعد انقراض عصر الصَّحابة»(الجويني، البرهان في الأُصول). غير أنَّ شيوخ المالكيّة نفوا الفتوى. بمعنى أنَّ حميدتي، وفق هذه الرواية، أعلن المبرر لإزالة نظام البشير، وهو يهمُ (أي البشير) بقتل الثُّلث، مِن المحتجين ضده!
لم يكن المشهد السودانيّ، بخصوص المحتجين، بعيداً بما حصل لمحتجي العراق، صحيح لم تصدر فتاوى مباشرة بقتلهم، لكن عشرات الفتاوى قد صدرت ضمنياً، ومَن يتمعن في «دليل المجاهد» لمحمد كاظم الحائري، وخُطب رجال الدّين، ومعمم قناة «آفاق» سيجد المضمون واضحاً فيها، اعتبروهم كفاراً فساقاً، حتى ظهر أبرز قادة المجاهدين يقول جهاراً «علينا بالرُّؤوس»! علماً أنَّ المنخرطين في الميليشيات جلهم مِمن تربى على «دليل المجاهد».
صار بالسودان جيشان، والدَّولة واحدة، وبالعراق جيشان والدّولة المعلنة واحدة، لكن ما يزيد عنه حشد العراق أنّه أصبح قوةً اقتصاديّةً، داخل الدَّولة، بعد تأسيس شركة استثمارية عملاقة، فأخذت ميليشياته تتضخم، لها جهاز استخباراتها الخاص، يعتقل ويخطف جهاراً، اتخذت مِن منطقة «جرف الصَّخر» عاصمةً، المكان الذي حُرم على أهله العودة. أرى المشهد كالآتي، وفق ما حصل بالسّودان: إنَّ حشد العراق بني وفق استراتيجية مدروسة، منذ (2003)، وما فتوى «الجهاد الكفائي» إلا غطاءً دينياً، مِن أجل إضافة «المقدس» له، وهو يتضخم بوجود وزراء وموظفين كبار في الدَّولة، وعدته وعتاده مِن الميزانيّة العراقية، يكفيك النّظر في الرَّايات والصُّور والتَّصريحات، والممارسات تجد سيوفه مشرعةً مع الخارج إذا حمى الوطيس.
انفجر الموقف بالسودان، بين الجيش وقوات التدخل السّريع، ولا نظن أنّ «جنجويد» العراق الولائي سيكون طوع القانون، يأتمر بأمر السّلطة الشّرعيّة. فحذار مِن المواجهة، التي إن حصلت لا تذر ولا تبقي. ليكن المشهد السُّوداني اليوم درساً للعراق غداً!
لا يمكن يستقر بلدٌ فيه جيشان. صار العِراق بوجود الميليشيات طارداً لأهله، في زمن الدّيمقراطيَّة، وهو الذي يشار إليه لعظمة خيره ونعيمه ببيت لبشار بن بُرد(قُتل: 168هج): «يزدحمُ النّاسُ على بابه/والمَورد العَذب كَثير الزَّحامِ»(الدِّيوان).
بمعنى يكثر على بابه الغزاة والطَّامعون بأعذار مختلفة، حماية المذهب أو القوميَّة. زوروا كردستان العِراق، وسترون زحمة طرائد «الجنجويد» الولائيّ تنتظر، بينهم أبناء مخطوفين ومغتالين.