آخر أخبار الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، أنه بعد عشرين سنة على خروجه من العراق، ما زال يرى الأسود أبيض، والليل نهارا، وجهنم الحمرا جنة الفردوس.ففي آخر تصريحاته عن العراق تبين أنه ثابت على قناعته بأنه متفضل على العراق والعراقيين. فقد صنع لهم عراقا ديمقراطيا آمنا مزدهرا ومستقرا، ورحل.في يوم الاثنين 24 حزيران/ يونيو 2004 بعد أن نقل إلى أياد علاوي صك “السيادة الوطنية”، طلب كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي، على هاتفها النقال، وكانت ضمن الوفد المرافق للرئيس الأميركي جورج بوش الابن، في مؤتمر حلف الناتو المنعقد في أنقرة، وزف لها الخبر السعيد، فبادرت هي على الفور إلى أن تكتب على ورقة صغيرة “العراق اليوم أصبح سيد نفسه” وسلمتها لوزير الدفاع دونالد رامسفيلد الجالس خلف الرئيس، فمررها إلى الرئيس الذي عرضها بدوره على رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، الجالس إلى جواره، بعد أن كتب أسفلها عبارة “تعيش الحرية”.
وفي لقاء تلفزيوني جديد كرر بريمر القول بأن “المشروع الأميركي في العراق تجاوز المصاعب، وأدى إلى إقامة عراق ديمقراطي مستقر”.والذي يجعل هذا الكلام عن “العراق الديمقراطي المستقر” خارج التغطية هو أن بريمر أسس مشروعه الأميركي في العراق على خطأين كبيرين عندما اختار الفئة التي رأى أنها تستحق أن تحتكر السلطة والقوة والسلاح والمال.الأول، أنه تنكر لوعد الإدارة الأميركية بإقامة نموذج ديمقراطي في العراق يقوم على أساس المواطنة، وليس القسمة الطائفية. ثم اعتمد أغلبية الطائفة الشيعية واختار، بالتالي، من اعتبرهم وكلاءها الشرعيين، متجاوزا واقع تنوع الطائفة العقائدي والسياسي والثقافي.
وهذا ما أنشأ الوضع المريض الذي يشكو منه الشيعة، ويبكي منه السنة، ويلعنه الكرد، والذي تحول إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في يوم من الأيام، وقد لا تجعل العراق سودانا آخر بل بركانا مدمرا تصل حممه إلى كل دول المنطقة.فقد جعل العراق إقطاعيات مستقلة. فلكل حزب، وكل ائتلاف، وكل ميليشيا جمهورية مستقلة مستعدة لحمل السلاح دفاعا عن حدودها المقدسة.وقد كانت أمامه، وفي متناوله، صيغة أفضل، وشخصيات أعقل وأعدل وأكثر وطنية وخبرة ونزاهة، لو كان يومها ذا بصر وبصيرة.
وفي الانتخابات الأخيرة تأكدت أكثرية الناخبين العراقيين أنها أخطأت، سابقا، ومنحت ثقتها لمن لا يستحق من أحزاب السلطة فقررت معاقبتها ومقاطعتها فلم يتجاوز عدد المشاركين في اقتراع 2021، وفق بيانات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، نسبة 15 في المئة من أربعين مليونا أو يزيد.لقد كانت أمامه فرصة ذهبية تاريخية كان يستطيع اقتناصها لإقامة نظام عراقي جديد يجنب الشعب العراقي الاقتتال وخراب البيوت، ولا يكلف الشعب العراقي الثمن الباهظ في الأرواح والمال والأمن والاستقرار، ولا يكلف أميركا، ذاتها، عشرات الألوف من جنودها والمليارات المهدورة من دولاراتها، ولكنه لم يفعل.
فيوم سقوط النظام السابق في أبريل 2003 لم يكن مهمّا لدى المواطن العراقي المعافى من الطائفية والعنصرية والارتزاق والتبعية أن يكون حاكمُه الفعليُّ المالكُ لكامل الصلاحية عربيا أو كرديا، سنيا أو شيعيا، مسلما أو مسيحيا، إذا كان من خامة عبدالمحسن السعدون ونوري السعيد ومحمد فاضل الجمالي ورضا الشبيبي وسعيد قزاز وعبدالرحمن البزاز وطاهر يحيى وعبدالرحمن محمد عارف.كما أن من الصعب، وربما المستحيل، إقامة ديمقراطية، من أي نوع، في العراق على أيدي من يبغضها ولا يؤمن بها، كأحمد الجلبي وأياد علاوي ونوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وعبدالعزيز الحكيم وإبراهيم الجعفري وجلال طالباني ومسعود بارزاني وغازي الياور ومحمود المشهداني وسليم الجبوري ومحمد الحلبوسي وخميس الخنجر وأحمد الجبوري (أبومازن) ومشعان.
وما جرى ويجري بين شيعة المحاصصة وسنتها وكردها من تقاطعات ومشاكسات ومواجهات، وما جرى ويجري داخل كل حزب من أحزاب المحاصصة من تشققات وانقسامات وصدامات، دليل على هشاشة الأساس الذي أقام عليه بريمر ديمقراطيته التي يعتقد بأنها جعلت العراق “سيد نفسه”.ويبدو أن بريمر وحده، صاحب هذا الحكم الأعوج على ديمقراطية المحاصصة، ومن خلفه الجمهوريون في إدارة بوش الابن السابقة.فالظاهر أن للسفيرة الديمقراطية الأميركية ألينا رومانسكي رأيا آخر في ديمقراطية العراق. فمن لقاءاتها بأقطاب العملية السياسية، وبعض قادة الفصائل المسلحة، وهي تمتلك من ملفات جرائم كل واحد منهم الشيء الكثير، يتكهن عراقيون كثيرون بأنها تختلف عن بريمر في فهم الواقع العراقي الحقيقي.
وعشرون سنة من الانتكاسات والإشكالات والتعقيدات التي أفرغت الديمقراطية الأميركية في العراق من مضمونها الصحيح كافية لحمل الإدارة الأميركية الحالية على معرفة الحقيقة التي يحاول بريمر إنكارها، والقائلة بأن العراق ليس ثلاث دول متقاطعة لا يجمع بينها جامع، وأن الطائفة الشيعة، كطائفة، لا علاقة لها بممثليها في العملية السياسية، وأن قادة الحزبين الكرديين الحاكمين لم يكونوا يقاتلون الدكتاتورية من أجل الديمقراطية وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة للشعب الكردي، والسياسيين السنة المشاركين في العملية السياسية لا يخشون شيئا مثل خشيتهم من العدالة وسلطة القانون، ومن الدولة الموحدة القوية التي لا تسمح بالتهريب والخيانة والاختلاس.
وعند مقارنة الوضع السوداني الذي فجر الصراع الدائر اليوم بين الجيش والدعم السريع بحالة الغليان الشعبي المستتر في العراق نتبين الحقيقة المرعبة التي تؤكد أن العراق أكثر استعدادا من السودان لكارثة الانفجار المدمر، إلا إذا قررت أميركا، بالتواطؤ مع حلفائها المسلحين غير المعلنين، أن تدبر انقلاب جيش وشرطة وعشائر مسلحة ضد حملة السلاح المنفلت، في خطوة استباقية لمنع اندلاع الانتفاضة الشعبية المتوقعة التي لا بد أن تكون أكثر شمولا وعمقا وصلابة من سابقاتها، ولن يكون في قدرة أحد وأدها، هذه المرة.