عن الغوغائية والغوغائيين

عن الغوغائية والغوغائيين
آخر تحديث:

بقلم:إبراهيم الزبيدي

ما حدث في فرنسا وما حدث في بلاد أخرى قبلها ليس غريبا ولا عجيبا. وكل الحكاية أن شرطيا فرنسيا قتل شابا فرنسيا من أصل جزائري. طبعا لا الحكومة الفرنسية أمرت، ولا الشعب الفرنسي طلب من الشرطي أن يرتكب هذه الجريمة العنصرية البشعة لكي تثور الألوف من الجزائريين والأفارقة المقيمين في فرنسا لنهب المحلات التجارية وتكسير الأبواب وحرق السيارات وانتهاك الحرمات.فهي جريمة فردية وقد ألقت الحكومة القبض على الجاني، وأحالته إلى القضاء وسينال جزاءه العادل لا محالة.

وتذكرون ما حدث في أميركا في أعوام سابقة.ففي عام 1965 أدى توقيف رجال شرطة بيض شابا أسود يدعى ماركيت فراي إلى مشاجرة بين الشرطة وأقربائه، ثم إلى تمرد في لوس أنجلس، ثم تحولت المدينة إلى ساحة حرب، وبلغ عدد الضحايا 34 قتيلا.وفي ولاية نيوجيرسي عام 1967 أفضت مشادة بين شرطيين أبيضيْن وسائق سيارة أجرة أسود إلى أعمال شغب في مدينة نيويورك، كانت محصلتها 26 قتيلا.وفي نفس العام 1967 اندلعت أعمال عنف في ديترويت بولاية ميتشغان أدت إلى مقتل 43 شخصا، وامتدت أعمال العنف إلى ولايات أخرى.وفي عام 1968 وعلى إثر اغتيال القس الأسود الشهير مارتن لوثر كينغ في ممفيس بولاية تينيسي، تفجر العنف في 125 مدينة، مما أدى إلى سقوط 46 قتيلا، وانتشار العنف في ولايات أخرى. وفي ميامي عام 1980 برأت محكمة أربعة من رجال الشرطة البيض قتلوا سائق دراجة نارية أسود، فاندلعت أعمال عنف سقط فيها 18 قتيلا.وتظل الحادثة الشهيرة للأميركي الأسود رودني كينغ عام 1992 في لوس أنجلس هي الأعنف والأشد دموية، بعد تبرئة أربعة من الشرطة انهالوا على رودني بالضرب حتى فارق الحياة، ومات في أعمال العنف 59 والمصابون 2328، وأخيرا حادثة مقتل جورج فلويد في مينيابوليس في ولاية مينيسوتا عام 2020 التي تزامنت مع انتشار وباء كورونا وإقبال الأميركيين على الانتخابات الرئاسية الأميركية.وقد دفع الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب ثمن ذلك بخسارته الرئاسة بعد أن حمله الديمقراطيون مسؤولية الحادث.

وعندنا في العراق حدث “فرهود” فريد من نوعه. فقد تفجرت حوادث العنف والنهب في بغداد ومدن أخرى ضد اليهود في 1 يونيو 1941 خلال احتفالهم بعيد الشفوعوت اليهودي، وراح ضحيتها حوالي 175 قتيلا وجرح 1000، ودُمِّرَ حوالي 900 من منازل اليهود العراقيين.وكان هذا الفرهود أحد الأسباب التي أدت إلى هجرة اليهود العراقيين إلى إسرائيل.وحدث الشيء نفسه في الموصل وكركوك سنة 1959، في أعقاب تمرد العقيد عبدالوهاب الشواف ضد حكومة الزعيم عبدالكريم قاسم.ثم حدث الفرهود أيضا وعلى نطاق واسع في العراق أثناء ما سمي بالانتفاضة الشعبانية التي امتدت إلى أكثر من عشر محافظات.صحيح أن بدايتها كانت غضبا عفويا على خطيئة غزو الكويت وما أعقبه من خسارة أكثر من مئة شهيد من الضباط والجنود العراقيين، ومن إهانة وتدمير لآلاف الدبابات والناقلات، إلا أنها تحولت إلى فوضى تخللتها أعمال نهب وحرق وسرقة لا ينكرها أحد.

ومعروف كيف سمحت أميركا للنظام بوأدها بقسوة بالغة تعدت حدود المعقول.وحدث فرهود آخر لدينا في العراق في أبريل 2003 أثناء الغزو الأميركي وسقوط نظام صدام حسين.فقد تفجرت النزعات الغوغائية وراحت المجاميع الفوضوية تنهب مباني الحكومة وقصور صدام وأسرته وأعوانه، والمتحف الوطني والجامعات والمستشفيات والمحلات التجارية دون أن تتدخل قوات الغزو الأميركي لمنع ذلك.شيء آخر. تثبت التجارب المتلاحقة عندنا في العراق، وفي بلاد كثيرة أخرى عديدة، أن أي حاكم يستعين بعصابة أو زمرة أو ميليشيا لكي يستخدمها ضد خصومه وأعدائه اليوم، لا يمكن أن يسلم من غدرها في الغد.

وكل الميليشيات التي أنشأها أصحاب السلطة كانت دائما تتحول إلى عصابات تمارس القتل والنهب والسطو والاختلاس وخراب البيوت. وفي جميع الحالات كانت تعود على مؤسسيها بالويل والثبور.ولعل أحدث الأمثلة على ذلك هو انقلاب صاحب ميليشيا فاغنر الإرهابية، يفغيني بريغوجين على سيده ومربيه ومموله ومسلحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.فقد أنشئت فاغنر من قبل الحكومة الروسية، لكي تستخدمها لتحقيق مصالح معينة في دول خارجية، دون أن تتحمل مسؤولية أعمالها، بزعم أنها مؤسسة خاصة لا سلطة للحكومة عليها. ومنذ تأسيسها كان متوقعا أن تنتفخ، وتتمدد وتزداد قوة ونفوذا، وقد تعض اليد التي صنعتها.وفي السودان أنشأ الجيش السوداني، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، ميليشيا الدعم السريع لمعاونته على ضبط الأمن في دارفور، وللدفاع عن النظام وقت الحاجة.

ثم شيئا فشيئا تحولت إلى جيش آخر مواز لجيش الحكومة وأقوى منه وأغنى بكثير، حتى صار الصدام بينهما أمرا محتما بسبب تقاطع المصالح بين عبدالفتاح البرهان قائد الجيش، وحميدتي رئيس ميليشيا الدعم السريع. وها نحن نرى ونسمع ماذا يجري في السودان والآتي أعظم.ولدينا نحن، في العراق، تجارب مشابهة عايشها كثيرون في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات.فقد أنشأ الزعيم عبدالكريم قاسم ميليشيا المقاومة الشعبية في أغسطس 1958. ورغم أنه ربطها بوزارة الدفاع لتكون له عونا على القوميين والبعثيين والناصريين الطامعين في الحكم، إلا أن الحزب الشيوعي العراقي تسلل إليها، وهيمن عليها، وجعلها عصاه التي يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، تعتقل من يشاء، وتقتل لحسابه من يشاء ومتى يشاء، ولكن تحت شعار الدفاع عن الزعيم. وكان شعارها المفضل، “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة”.

ومعروف أن كثيرين من الغوغاء والانتهازيين والفوضويين تسللوا إليها، وجعلوها قوة غير منضبطة، وراحوا يرتكبون جرائم القتل والاعتقال الكيفي، وفي النهاية اضطر الزعيم عبدالكريم إلى حلها ومحاكمة أغلب أعضائها وسجنهم.شاهدت بعيني، في حالات عديدة، كيف كانت الجموع المندفعة تدور في الشوارع باحثة عن بعثي لتربطه بالحبال، وتسحله، أو تنهال عليه ضربا بالعصي والأحذية، وأحيانا بالسكاكين، دون تدقيق ودون تهمة ودون قانون. لقد تحولت إلى مجاميع منفلتة تعبث بأمن المجتمع وكرامة الدولة وقوانينها.

ويومها تباهت صحيفة “اتحاد الشعب” لسان حال الحزب الشيوعي العراقي، بالجرائم التي ارتكبتها المقاومة الشعبية في الموصل، حيث كتبت تقول في عددها الصادر في 13 / 3 / 1959 “عُلقت وسُحبت جثث المجرمين القتلة في مدن الموصل وقراها، وانجَلت المعركة، فإذا بالعشرات من المجرمين الشرسين العتاة، مدنيين وعسكريين، صرعى في دورهم، أو على قارعة الطريق في الموصل وتلعفر وعقرة وزاخو وفي كل زاوية”.وفي مقال آخر بتاريخ 16 / 3 / 1959 نقرأ “إن لنا من الأعمال البطولية في الموصل خبرة وافرة في سحق الخونة.. إنَّ مؤامرة الموصل وسحقها وسحل جثث الخونة في الشوارع ستكون درسا قاسيا للمتآمرين، وضربة بوجه دعاة القومية”.

ولكن القاعدة الأبدية تقول “لا يصح إلا الصحيح”.فرغم أن الخلاص من المقاومة الشعبية كان يبدو كالمستحيل، إلا أنها تهاوت بسرعة، وفي أيام قليلة، بخطاب ألقاه الزعيم عبدالكريم قاسم في كنيسة مار يوسف هاجم فيه القتلة والمجرمين، واستنكر فيه جرائم من أسماهم بالفوضويين.يعني أن المقاومة الشعبية قد علمت حزب البعث كيف ينتقم. ففي أول أيام انقلاب فبراير 1963 بادر الحكم القومي الجديد إلى تشكيل الحرس القومي الذي فاق إرهابه إرهاب المقاومة الشعبية بكثير.وكما هي حال المقاومة الشعبية، فقد أقدم حزب البعث يوم نجاحه في الانقلاب على نظام الزعيم عبدالكريم في فبرابر 1963 على إنشاء ميليشيا الحرس القومي الذي مارس جرائم قتل وتعذيب خارج إرادة الدولة والقانون، ثم راح غلاة أفراده يعتدون على قادة ومسؤولين في القوات المسلحة والدولة.ثم كانت النتيجة أن استغل عبدالسلام محمد عارف وحردان التكريتي وطاهر يحيى ورشيد مصلح وصدام حسين نقمة القوات المسلحة والجماهير الشعبية عليه، فقاموا بالانقلاب على الحزب، واستلام السلطة ومعاقبة قادة الحرس القومي وأعضاء القيادة القطرية للحزب المسؤولين عنه.يعني أن المقاومة الشعبية أضرت بالحزب الشيوعي وبالزعيم، كما أن الحرس القومي أساء لسمعة حزب البعث، وتسبب في دماره. وما زالت ذكريات المخالفات والجرائم السابقة تلاحق الحزبين، إلى اليوم.ويبدو أن الاعتراف بالخطأ ليس فضيلة عندنا في العراق.فلا الحزب الشيوعي ولا حزب البعث قد اعترف بأخطاء الماضي واعتذر للشعب العراقي عما جنته قيادة الحزب أو أتباعها المنفلتون.

التعليقات

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *