بقلم:عوني القلمجي
بعد الأداء الباهت لرئيس الحكومة محمد شياع السوداني، وافتضاح كذبة برنامجه الإصلاحي، وبالذات اعادة البنى التحتية، وامام تصاعد حدة الاستياء الشعبي ضد حكومته، لجا السوداني الى اعلان النفير العام لمواجهة حزب البعث، ودحر مؤامرته لانتزاع السلطة من يد الشيعة. بالضبط كما فعل اسلافه من رؤساء الحكومات المتعاقبة. ولتمرير هذه الترهات، أصدر السوداني بتاريخ الثامن من اذار الماضي، توجيها الى وزارة الداخلية والقوى الأمنية، يطلب فيه مطاردة البعثيين والقاء القبض عليهم. في حين نسي السوداني تصريحات قادة اطاره التنسيقي حول وفاة حزب البعث وتشييعه الى مثواه الأخير.
اما الإطار التنسيقي، فاخذ على عاتقه تسويق السوداني كمنقذ، من خلال تضخيم الإصلاحات المتواضعة التي قام بها. من قبيل تقديم بعض صغار الحرامية الى المحاكم وتبليط بعض الشوارع الفرعية، او زيادة عدد ساعات الكهرباء، او افتتاح مشروع عمراني، او وضع حجر اساس لبناء وحدة سكنية، في حين تم اغفال وعود السوداني وحكومته، الشروع في اعادة البنى التحتية، والتي من دونها لا يمكن بناء دولة قوية مستقلة وذات سيادة، توفر لمواطنيها حياة حرة كريمة. مثل بناء المحطات الكهربائية والغازية ووسائل مواصلات حديثة كالطرق السريعة والسكك الحديدية والانفاق وإنشاء السدود، والموانئ وتطوير الصناعة والزراعة واستصلاح الأراضي والتعليم والتطور العلمي والبحوث الاكاديمية والتكنولوجية.
لندع هؤلاء يتحدثون كما يحلو لهم، ويراوغون كما يشاؤون. وننظر للوضع في العراق ليس كما يصوره الاعلام الحكومي، وانما كما هو فعلا. فالسوداني هو مرشح الإطار التنسيقي، الذي يضم أكثر الأحزاب والمنظمات والشخصيات فسادا. مثل نوري المالكي وهادي العامري وقيس الخزعلي وعمار الحكيم. وهؤلاء الأشرار بدورهم نتاج عملية المحتل السياسية، التي صممتها أمريكا بعناية بالغة، لغرض تدمير العراق دولة ومجتمعا. وبما ان هذا المشروع التدميري لم يكتمل بعد، فان اي اصلاح جدي في ظل وجود المحتل وهؤلاء الأشرار، هو ضرب من المستحيل.
ليس السوادني وحده غير قادر على الإصلاح، فجميع الحكومات السابقة انتهت مشاريعها الإصلاحية الى نفس المصير. وكان من بينها مشروع الإصلاح في زمن نوري المالكي، الذي تضمن سبعين فقرة تجعل من العراق الجنة التي تفيض لبنا وعسلا. وبرنامج مقتدى الصدر، الذي فاق مشروع المالكي. في حين انتهى مشروع عادل عبد المهدي الى فضيحة مدوية. فبعد تعهده امام أعضاء البرلمان، بأنهاء ملفات الفساد في كل مفاصل الدولة ومؤسساتها، والتي بلغت أربعين ملفا، خلال مدة أقصاها ستة شهور، ترك منصبه بزيادة عشرين ملفا جديدا. وهذا ليس غريبا، فالإصلاح لا يأتي به المفسدون، كما هي الشجرة الخبيثة لا تنتج سوى ثمار خبيثة.
الإصرار على تكرار الأكاذيب، والايغال في اغراق الناس بالأوهام، بهدف دفعهم للتعلق بها، خاصة من قبل الفئات الذين ضاقت بهم سبل الحياة وشظف العيش وقساوة الظروف، بدل الانضواء تحت لواء ثورة تشرين، باعتبارها الطريق الوحيد للخلاص. وبتالي ينبغي التأكيد على حقيقة واحدة مفادها، ان أمريكا لم تحتل العراق من اجل بنائه وانما من اجل تدميره، وان هؤلاء الأشرار قد اختارتهم أمريكا، وبالاتفاق مع حلفائها من الدول المجاورة، وعلى راسهم إيران، ليكونوا الأداة الفعالة لتنفيذ مخطط تدمير العراق وشعبه.
هذا ليس اتهاما او تجنيا، وانما حقيقة اكدتها الوقائع والاحداث، خلال سنوات الاحتلال العجاف. حيث بدأت أمريكا واشرارها بحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وتدمير المؤسسات والبنى التحية ومنع إعادة بنائها.، لتنشئ بدلا عنها أجهزة ومؤسسات مبنية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، لتنتقل الى شيطنة الهوية الوطنية بتقسم العراق الى ثلاثة مكونات، كردي وشيعي وسني، لزرع الفتن وإدخال هذه المكونات بحروب طائفية، كلفت العراق عشرات الالاف من الضحايا، لتنتهي بتجويع واذلال العراقيين من خلال حرمانهم من ابسط مقومات الحياة الضرورية كالماء والكهرباء والصحة والامن. ناهيك عن جعل العراق ساحة متقدمة لممارسة كل أنواع الإرهاب ضد الشعب العراقي. حيث فسحت المجال واسعا امام المنظمات الإرهابية والسماح لداعش، المنظمة الأكثر إرهابا، باحتلال ثلثي مساحة العراق. والقائمة بهذا الخصوص طويلة ومؤلمة.
السؤال الكبير المطلوب الإجابة عنه، هو هل أصبح هذا المخطط الأمريكي قضاء وقدرا لا مرد منه وعلينا الاستسلام أمامه؟ آم أنه لاتزال لدى الشعب العراقي القدرة على وقف هذا المخطط التدميري وهزيمته كما هزمت الشعوب الأخرى اعداءها؟
يعتقد البعض بان لا طريق لتجنب الغول الأمريكي سوى الاستسلام له والتقليل من مخاطره، عبر الحوار والتفاهم معه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفق قاعدة نصف الخسارة ربح. ويبرر هؤلاء ذلك بالقول، بان أمريكا بعد ان أصبحت القوة الأعظم في العالم، انفردت وحدها بالقرارات الدولية والتحكم بمصير دول العالم وشعوبها، وخاصة الصغيرة والضعيفة. إضافة الى انعدام قدرة آية دولة، مهما علا شانها، على الوقوف بوجه الآلة العسكرية الأمريكية العملاقة، التي بلغت من التطور حدا، يكفي لتدمير أي بلد وعلى وجه السرعة.
لا تخلو مثل هذه الآراء من قيمة آو فائدة، فهي تنطوي على الكثير من الحقيقة، ولكن لا الحقيقة كلها. إذ ليس بالضرورة آن تتم مواجهة الولايات المتحدة والتها العسكرية آو غيرها من الدول الاستعمارية بالة عسكرية مماثلة. فلدى الشعوب وسائل أخرى أثبتت التجارب فاعليتها، والحقت الهزيمة بهذه القوى الاستعمارية. وخير دليل على ذلك، ما حصل في فيتنام والجزائر والصومال، وكان اخرها هزيمتها على يد طالبان، التي لا تمتلك سوى أسلحة بدائية. اما المقاومة العراقية، فقد الحقت حينها الهزيمة بالقوات الامريكية في مدينة الفلوجة، امام حفنة من المقاتلين، حتى ذاع صيتها في ارجاء المعمورة.
وإذا نسينا هذه المعركة المشرفة لمضي عقدين من الزمن عليها، فمن غير المعقول نسيان ما قامت به ثورة تشرين السلمية، التي كادت ان تسقط العملية السياسية برمتها، لولا التآمر الداخلي عليها، من قبل المليشيات المسلحة والحرس الثوري الإيراني وسرايا القبعات الزرق التابعة لمقتدى الصدر. حيث استخدم هؤلاء الأشرار كافة أنواع الأسلحة لقتل الثوار في ساحات التحرير. اما في مدينة الناصرية، عاصمة الثورة التشرينية، فقد استخدمت حكومة عادل عبد المهدي، كافة أنواع الأسلحة، ومن ضمنها الأسلحة الثقيلة من مدفعية ودبابات.
ان التشكيك بقدرة الشعوب على هزيمة المعتدين مهما بلغوا من قوة، بصرف النظر عن النوايا الحسنة، او المخاوف المشروعة، يصب في نهاية المطاف في خدمة المحتلين. لأنها تبعد الناس عن الدخول في معارك من هذا الوزن. وبصدد ذلك ينبغي التدقيق في ظاهرة الانتفاضات او الثورات الشعبية. فهي وفق المفاهيم العامة، تعبير عن قوانين اجتماعية تسري على جميع المجتمعات البشرية، وهي غالبا ما تكون عفوية في بداياتها، ولكنها سرعان ما تنتظم مسيرتها، وتفرز قادتها وبرنامجها السياسي. ومن قوانينها أيضا، سواء كانت الثورة سلمية او مسلحة، في هذا البلد او ذاك، انها لا تسير في خط تصاعدي طول الوقت. فهي تتراجع حينا وتتقدم حين اخر، مرة تهدا ويخفت صوتها، ومرة تعود كالزلزال. وبالتالي، فإمكانية عودة الثورة قوية ومهابة وواعدة، امكانية قابلة للتحقق.
ومما يعزز هذا الاستنتاج، ازدياد حدة الاستياء الشعبي ضد الحكومة وعمليتها السياسية الطائفية، جراء سرقة ثروات البلد والفساد المالي الاداري وانعدام الخدمات الخ. في حين لا تلوح في الافق اية بارقة امل لتحسين الاوضاع المزرية. فالفئة المتحكمة بالسلطة والقرار، مصرة على رفض اي إصلاح يمس، ولو شعرة من راسها، او يهدد مكسبا من مكاسبها، او يهز ركنا من مواقعها. الامر الذي سيؤدي حتما الى تشجيع الناس على الدخول في رحاب الانتفاضة افواجا، كما دخلوها افواجا
نعم هناك انتفاضات وثورات فشلت او سحقت وطواها النسيان، او سجلت ضمن الذكريات الوطنية المؤلمة. لكننا نتحدث عن ثورة مازالت نيرانها متقدة، رغم تراجعها وانكفاءها، وما زالت أيضا طاقاتها وامكاناتها الثورية والابداعية متفجرة، والقيادات الشابة التي افرزها طريق الكفاح، على مدى السنين الماضية، اصبحت واعية وأكثر خبرة.
قد تتمكن السلطة بكل ما تمتلك من سلاح وأجهزة قمع، اجبار ثورة تشرين على التراجع، لكنها لن تتمكن من اخماد نيرانها للأبد. لان افكارها تجذرت في اعماق المجتمع العراقي، ودخلت في كل بيت ومدرسة وجامعة ومعمل ومصنع ومسجد وحسينية وكنيسة. لا اجازف ابدا إذا قلت، هذه الثورة المغدورة ستلد ثورة أخرى في أي وقت، اقوى واشد ضراوة منها. لقد قدم التاريخ لنا حقيقة ثابتة مفادها، ان النصر في النهاية حليف الشعوب مهما طال الزمن وبلغت التضحيات.