ثمة الكثير من الحديث عن خطوط السكك الحديد في إقليمنا. هناك أفكار عن خطي سكك حديد يربطان منطقة القوقاز وروسيا بالخليج العربي والمحيط الهندي عبر إيران. الإيرانيون والعراقيون يتحدثون عن وصلة رابطة بين شبكة سكك حديد إيران والشبكة العراقية عن طريق خط الشلامجة – البصرة. ولا يتوقف الإيرانيون عن الحديث عن خط يربط إيران بالبحر المتوسط عبر العراق وسوريا. ثم هناك “طريق التنمية” الذي أعلن عنه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مؤخرا، وهو مشروع يربط بين الخليج وتركيا بسكك حديد تقصر المسافة الزمنية التي تستغرقها السفن عادة.على الورق، تبدو هذه المشاريع مهمة وأساسية. ثمة أبعاد سياسية كثيرة ترتبط بإقامة مثل هذه المشاريع. نظرة واحدة لخارطة روسيا تكشف كم أن هذا البلد المترامي الأطراف يفتقد إلى منافذ معقولة على البحر. حرب أوكرانيا كشفت أهمية البحر الأسود ومضيق البسفور. أغلب مناطق روسيا أسيرة لانغلاق الجغرافيا الأرضية، وبعيدة عن البحار والمحيطات.
لإيران دوافع لا تقل أهمية عن دوافع الروس في أن تكون عقدة مواصلات أساسية وأن تستغل تمددها السياسي في الشرق الأوسط لصالح تمدد إستراتيجي نحو البحر المتوسط. أكاسرة الفرس لطالما تطلعوا إلى مياه المتوسط، واليوم بحكم تواجد حزب الله كقوة طاغية في لبنان، وكنتيجة لوصول الإيرانيين إلى سوريا تحت غطاء الحرب الأهلية السورية، ولسقوط شمال العراق لفترة تحت سيطرة داعش ثم استعادة ميليشيات الحشد الشعبي للسيطرة على محافظات ديالى وصلاح الدين ونينوى، صار الحلم الإيراني في خط طهران/البحر المتوسط واردا.
المختلف هو “طريق التنمية” الذي أعلن عنه السوداني. يبدو المشروع منطقيا إلى حد كبير. العراق هو رابط جغرافي بين منطقتين اقتصاديتين مهمتين: الخليج وأوروبا. يمكن للبضائع الأوروبية أو المنتجات الخليجية خصوصا تلك المتعلقة بالطاقة، أن تنتقل بسرعة كبيرة بين المنطقتين. السكك الحديد هي أساس النقل في البلاد المنغلقة بالجغرافيا الأرضية. لبلد افتقد التنمية على مدى عقود من الحروب والحصار الاقتصادي والصراع الأهلي، يصير المشروع الموعود نقطة تحول فاصلة تستحق الاهتمام والإشادة. بالحد الأدنى، هناك حكومة عراقية تفكر في التنمية، وهو شيء افتقده العراق منذ وقت طويل على الرغم من تحقيقه واردات من بيع النفط تفوق كل معدلاته السابقة للغزو الأميركي عام 2003.لو توفر المال للاستثمار في العراق اليوم فإن أول هدف ينبغي أن يكون هو الإنتاج النفطي وتوسيع صناعة الغاز
السؤال: إلى أي مدى يمكن أن يصبح “طريق التنمية” طريقا للتنمية في العراق؟ ثمة خبراء عراقيون سيقولون إنّ الفكرة قابلة للتطبيق وإنها يمكن أن تحدث بعض الفارق في بلد مثل العراق. لست متخصصا، لكن من الوارد طرح بعض التساؤلات حول الجدوى الآنية من المشروع في بلد يعاني من تفكك بنيته التحتية وعجز مزمن في الطاقة الكهربائية وإخفاق في تطوير إنتاجه النفطي. السؤال الأدق هو: هل ثمة أولوية للمشروع الآن؟
البنية التحتية في العراق حكاية لوحدها. الخدمات في حال مزر، ليس بسبب الحروب والإهمال والنقص في الاستثمار فيها، بل إن البلد نفسه شهد فورة ديمغرافية رفعت عدد السكان من 13 مليونا عام 1977 إلى ما يقرب من 44 مليونا اليوم. خذ أي منحى من مناحي البنية التحتية من طرقات أو مجارٍ أو شبكة مياه للشرب واضرب الاستثمار المطلوب فيه في ثلاثة على الأقل. وكي نأتي إلى موضوع التنمية القائمة على الصناعة والزراعة من آخر المطلوب فنقول: هل لدى العراق ما يكفي من الطاقة الكهربائية لتحقيق أي تقدم في المجالات الأساسية؟ سيرد أي عراقي يعاني يوميا بين انقطاع تزويد بيته أو ورشته بالكهرباء الوطنية، وإعادة ربط البيت أو الورشة بالمولدات المحلية بأن لا شيء يمكن أن يتقدم خطوة من دون حل مشكلة الكهرباء.
لو توفر المال للاستثمار في العراق اليوم فإن أول هدف ينبغي أن يكون هو الإنتاج النفطي وتوسيع صناعة الغاز. لا يتناسب الإنتاج النفطي العراقي مع مرتبة البلاد كواحدة من أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم. بعض القراءات تقول إن العراق هو أكبر خزان نفطي غير مستكشف في العالم وإن الفحوص الزلزالية لم تستكشف إلا الجزء اليسير من حجم الخزين. في الوقت الذي ظل فيه المسؤولون العراقيون يتحدثون عن زيادة الإنتاج النفطي العراقي، كانت دولة مثل الإمارات قد ضاعفت إنتاجها وبدأت تتوسع في الاستخراج والمشتقات وتتحرك بسرعة نحو صناعة إنتاج الغاز. الإنتاج النفطي العراقي، في أحسن الأحوال ومنذ عام 2016، يراوح مكانه، بل تراجع بطريقة مقلقة مؤخرا. الاستثمار في صناعة النفط والغاز الآن هو حزمة إنقاذ للصناعة المثقلة بالمشاكل، والتي انتهكت فيها خلال عقود كل قواعد الحفاظ على مستويات الضغط في الآبار وحماية البيئة وحرق الغاز بدلا من استخراجه وتصنيعه.”طريق التنمية” في العراق واحد من أحلام يقظة لبلد لم يقدر إلى اليوم حجم أزماته. يحتاج البلد إلى التنمية، ولكن بمعطيات أخرى وأولويات مختلفة
تبدو الدول الخليجية وتركيا أكثر المستفيدين من “طريق التنمية”. لا نعرف إن كان الاستثمار الأكبر في الطريق سيكون من حصة الحكومة العراقية أم من مستثمرين خليجيين كما تم تداوله. لا شك أن تركيا ليست بوضع يسمح لها بالاستثمار في مشروع في العراق. وحتى عند النظر إلى المستثمر الخليجي، فإن الكثير من علامات الاستفهام ستفرض نفسها.
لنأخذ السعودية على سبيل المثال. تمتلك السعودية سواحل طويلة على البحر الأحمر والخليج العربي. لكنها تحس بـ”الاختناق” لأن كل سفينة تصل موانئها، يجب أن تمر بقناة السويس أو مضيق باب المندب أو مضيق هرمز. لهذا نفهم الحرص السعودي على تأسيس علاقة خاصة مع مناطق يمنية – حضرموت والمهرة تحديدا – تطل على المحيط الهندي. خط سكك حديد خليجي يمر في أرض تفرض إيران هيمنتها عليها، هل هذا خيار منطقي لبلد مثل السعودية؟ نفس الشيء يقال عن الإمارات التي أعدت منشآت تحميل للنفط بديلة في الفجيرة بعيدا عن مضيق هرمز. ولعل العلاقات القطرية – التركية خاصة ومهمة، ولكن، مثلها مثل السعودية والإمارات، تقدر الدوحة خطورة الاستثمار في خط سكك حديد يمر في منطقة أقل ما يمكن وصفها به هو أنها غير مستقرة. لا شك أن الخليجيين سيغدقون الوعود على العراقيين بأن إنجاز “طريق التنمية” سيفتح باب التجارة واسعا من خلال العراق، لكن هذه الدولارات العزيزة التي قد تنفق على هذا المشروع، إنما يحتاجها العراق في إنقاذ ناسه من عطش محدق وحر لاهب. من الصعب أن يقدم الخليجيون شيئا أساسيا في مثل هذه المشاريع، ليصبحوا كمن يصنع “مضيقا” أرضيا يخنق به نفسه، ويسلمه بيد إيران.
من نافلة القول أن العراق منطقة غير مستقرة، ولا تزال مشاكل السياسة الداخلية والإقليمية قادرة على تعطيل أي منجز تنموي مهما بدا أن من غير المنطقي تعطيله. أين ذهب الاستثمار في خط النفط إلى سوريا أو الخط الإستراتيجي أو خط التصدير عبر السعودية صوب ينبع؟ مليارات من الدولارات أُنفقت في مشاريع إستراتيجية عطلتها السياسة والحروب والأزمات. ومثلما ثمة أخذ ورد على من يملك ماذا في معادلة الإنتاج النفطي العراقي بين الحكومة المركزية وحكومة كردستان، فإن “طريق التنمية” يمكن أن يتحول إلى عقدة جديدة في العلاقة بين بغداد وأربيل.كل هذا الحديث يضع جانبا مشكلة الفساد المستشرية في العراق، ويفترض أن السلطات قادرة على فرض الأمن بالرغم من انتشار الميليشيات وداعش والعصابات.“طريق التنمية” في العراق واحد من أحلام يقظة لبلد لم يقدر إلى اليوم حجم أزماته. يحتاج البلد إلى التنمية، ولكن بمعطيات أخرى وأولويات مختلفة.