العراق بلد بلا صناعة ولا زراعة ولا خدمات. ولكن لديه نفط. هذا كل ما بقي لنحو 45 مليون إنسان، تركهم الغزو الأميركي لميليشيات إيران ومَنْ لفّ لفّها.والفساد جزء من هوية النظام الحاكم في العراق. والهوية هي أنه “نظام محاصصة”. والمحاصصة تعني تقاسم الموارد على أساس منهوبات تدور مع دوران الكراسي بين شركاء “العملية السياسية”. وهذه “العملية” إن هي إلا عملية نصب سياسي لم يشهد مثلها بلد في الكرة الأرضية على مر التاريخ، أي منذ بدء الخليقة حتى الآن. والأمثلة تعد وتحصى لأن الناس لم يفقدوا الذاكرة بعد. وليست “سرقة القرن” إلا واحدة من آخرها، رغم أنها ليست من أكبرها. فقد سُرق من ميزانية الدولة في عهد مؤسس النظام وصاحبه الفعلي نوري المالكي، مبلغ قيل إنه “ضاع من الدفاتر” وصل إلى 400 مليار دولار في ثماني سنوات من ذلك العهد “التأسيسي”، بينما أصحاب “سرقة القرن” كانوا “فقرا مساكين” فلم يسرقوا سوى ملياري دولار من صندوق أمانات مصرف الرافدين، وحملوا الأموال (التي كانت بالدنانير العراقية) بشاحنات ضخمة، وجالوا بها في اتجاهات شتى حتى خرجت من العراق، وخلف كل شاحنة يوجد من قد يقول “يا حسين” و”سيري وعين العباس ترعاك”، لأن أركان الجماعة مؤمنون ويصلون ويحجون ويلطمون… إلى آخره، مما جعل العراق يستحق في السابق طوفان نوح، وعاد ليستحقه من جديد أكثر من المرة السابقة.
“الجماعة” انتبهوا، بعد “مسطولية” دامت عشرين عاما، إلى أن وضعهم صار “مو تمام”. فالانتفاضة التشرينية “نشرتهم على حبل الغسيل”. وبالرغم من أنهم تقاسموا ترويع المتظاهرين وقتلهم، تارة بالرصاص وقنابل الغاز، وتارة بالخناجر والسكاكين، أي تارة من جانب ميليشيات ما صار يُعرف فيما بعد بـ”الإطار التنسيقي”، وتارة من ميليشيات “التيار الصدري” الذي أراد أن يحتكر دور المعارضة. إلا أنهم أدركوا، جميعا، أنهم ساقوا البلاد إلى الإفلاس، حتى كادت خزانة الدولة تنضب، وعجزت عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين لعدة أشهر.
والذين عاشوا تلك الأيام، وهي قريبة على أيّ حال، ما يزالون أحياء لا يرزقون. والسبب لم يكن لأن عائدات النفط قليلة، وإنما لأن فاتورة النهب أكبر من تلك العائدات. ومع نقص الرقعة على المرقوع، فقد كان من الطبيعي أن يتناحر الحرامية، وفقا للقاعدة القائلة “ما رأيناهم يسرقون، ولكن رأيناهم يختلفون على السرقة”. بَيد أن العراقيين رأوهم في هذه وتلك على حد سواء.باقي القصة معروف. جرت انتخابات. فاز طرف. ثم انسحب من البرلمان. ونشبت معركة كاريكاتورية. ثم عاد وانسحب من “العملية السياسية”، تاركا “الجمل بما حمل” للطرف الآخر. وظهر أن “الجماعة” أرادوا أن يقدموا لـ”الشارع العراقي” صورة أخرى، يظهرون خلالها شرفاء وحريصين على التنمية التي نسوها عشرين عاما، لعلهم بهذه الصورة يستطيعون البقاء عشرين عاما أخرى.
تم اختيار محمد شياع السوداني ليكون رئيسا للوزراء، من ناحية لأنه يتمتع بشخصية هادئة يمكن التخفي خلفها. ومن ناحية أخرى، لأنه من أسماء الدائرة الثانية، لا الأولى، التي تضم حيتان النظام الكبار. وهو ما كان يعني أنه مؤهل أكثر من غيره لتقديم صورة مختلفة.
في سنته الأولى في السلطة كانت مسؤوليته الرئيسية هي أن “يجيبها راس براس”، أي أن يضبط الموازنة على مقدار العائدات. وكان ذلك يعني أن يتم كبح الفساد، إنما على أساس “راح اللي راح” لأجل البدء بصفحة جديدة على بياض. فيهنأ الفاسدون على ما فسدوا به.
سعيد الحظ، كان لديه نحو 100 مليار دولار مصونة لدى الاحتياط الفيدرالي الأميركي، يستطيع التحرك بها من عائدات تجمعت بسبب أن حكومة مصطفى الكاظمي كانت حكومة “تصريف أعمال” ولا تستطيع أكثر من دفع الرواتب. وتمت “سرقة القرن” من تحت أنفها، لأنها كانت “حصة” الوقت الذي أمضته في السلطة من دون مشاريع مزيفة تذهب عائداتها إلى إيران. فهذا هو أصل وسبب تلك السرقة المسكوت عنه.
ميزانية السوداني الأولى (الثلاثية) كفت لتسديد المتطلبات “التشغيلية”، التي تقصد بالدرجة الأولى دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين، حقيقيين ووهميين، إلى جانب حصص الجيش والأمن والميليشيات و”الفضائيين” هنا وهناك. فلم يبق فيها ما يكفي للاستثمار في مشاريع التنمية أو الإعمار الضرورية لامتصاص البطالة، أو للظهور بالمظهر الصالح لتقديم صورة جديدة. والبلاد باقية، على أيّ حال، من دون صناعة ولا زراعة ولا شيء آخر تعيش عليه، إلا النفط، أو بالأحرى، حصتها منه.
البحث عن مستثمرين من الخارج، كان هو الحل. ولأن الاستثمار الخارجي يحتاج ضمانات من فساد أقل، واستقرار أكثر، فقد أصبح لزاما على حكومة السوداني أن تبدو قادرة على السير في الطريق القويم، من وجهة نظر خارج لا يستطيع أن يرمي المليارات في بلد تحكمه عصابات مسلحة، تقودهم ثلة مؤمنين، من ذلك النوع الذي يأخذ حصة من كل شيء.
ومع تردد الخارج وحاجته إلى ضمانات، فإن سعيد الحظ، زاده الحظ فرصة أخرى بأن ارتفعت أسعار النفط، حتى صارت ميزانيته في مأمن، سواء من ناحية قدرتها على الإنفاق “التشغيلي”، أو من ناحية توفر الأموال لبدء بعض أعمال الإعمار. ذلك أن ملياري دولار إضافيين كل شهر مبلغ يمكن أن يحقق الكثير. بعبارة أخرى، فإن الميزانية تسمح باسترضاء السياسيين، بل وفسادهم، ويبقى فيها ما يكفي لبعض وجوه الإعمار. ولكن السوداني لم يفهم حتى الآن، أن الإعمار شيء، والتنمية شيء آخر، في بلد لا صناعة فيه ولا زراعة ولا مصادر عيش بديلة.
يمكن للسوداني أن يوظف هذه الأموال في قطاعات حيوية مثل البنية التحتية، والطاقة، وتطوير صناعات محلية توفر موارد إضافية، مما يسمح للعراق بالبقاء على قيد الحياة، مدة أطول من الزمن، قبل أن تندلع انتفاضة جديدة تطالب بتغيير النظام.
سعيد الحظ، يمكن أن يقدم صورة أخرى لجماعته، على أساس أن الناس على دين ملوكهم. أي أنهم فاسدون، وكلٌّ يبحث عن حصته في نظام المحاصصة. إلا أن ذلك يتطلب أن يُمسك بتلابيب اللعبة جيدا، لكي يمضي بها “خد وعين”. شوية لجماعته، وشوية للناس.
سوى أن ذلك ليس معتركا طويل الأمد، على أيّ حال. لأنه سوف يواجه واحدا من خطرين. الأول، إذا نقصت العائدات. والثاني، إذا زادت.النزاع سوف يعود لينشب في الحالتين. الأولى مع الناس. والثانية داخل إطار الجماعة “التنسيقي” الذي يريد كل منهم حصة أكبر ليخدم بها نفسه و”صاحبه” في إيران. ولن يمضي وقت طويل حتى تضيع من الدفاتر 400 مليار دولار أخرى. ذلك لأن مشاريع الإعمار هي واحدة من أهم مصادر النهب والعقود المزيفة. وهذا هو سبب الحرص عليها. في حين أن التنمية تعني توفير موارد وإمكانيات للصناعة المحلية والزراعة، مما يقوم عليه الاقتصاد السليم، وهو ممّا لا يمكن لأولي الألباب أن “يغرفوا” منه المليارات.وحيث أن الطبع غالبٌ على التطبّع، فإن نظاما قام على النهب السريع لا يمكنه أن يفعل سوى ما دأب عليه.الطوفان التالي سيأتي لـ”يكرف” أخضركم ويابسكم. فقد أضعتم العراق نفسه من دفاتر الأيام.