انتظرت إسرائيل شن هجومها البري على غزة حتى حصلت على ضمانات من إيران وميليشياتها بأن جبهة أخرى ضدها لن تُفتح.إيران التي لن تكف الحديث عن الظلم الذي يتعرض له الفلسطينيون، رأت كيف ظل الآلاف، ممن تبكي عليهم، يقعون ضحية لأعمال قصف وحشية، فلم تفعل شيئا إلا التصريح الكاذب، وإلا التضامن الفضفاض، وإلا لعبة تنس مارسها حزب الله مع إسرائيل بالرد على القذيفة بمثلها.
لم تشهد الحروب في المنطقة مثيلا للوحشية الإسرائيلية ضد غزة على الإطلاق. ولولا وحشية أخرى مارسها النازيون والحلفاء ضد بعضهم البعض في الحرب العالمية الثانية، لما كان التاريخ كله قد عرف وحشية مماثلة. بل إن ما تشهده غزة أعنف بكثير، لأنها سجن مغلق من الأساس. لا كهرباء تصله ولا مياه ولا غذاء ولا دواء ولا اتصالات. وهو مما لم تعرفه دريسدن ولا لينينغراد.
وسوى إطلاقات نار منتظمة ومنضبطة، لم يفعل حزب الله سوى انتظار غزة لتكون “رمزا حسينيا” آخر لكي يلطم عليه في عاشوراء. وهو ما يحصل الآن. لينكشف القناع، ويسقط الادعاء.“ما بعد بعد حيفا” لم يصل الى كريات شمونة. أخلت إسرائيل سبعة كيلومترات للعبة التنس بينها وبين حزب الله. والمباراة انتهت بالتعادل الذي يستحق الشكر من الطرفين للطرف الآخر. كان الأمر أشبه بالرد على التحية بأحسن منها. لا أكثر.المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي تلقى عشية الهجوم البري الإسرائيلي رسالة شخصية من الرئيس الأميركي جو بايدن. وعدا التحذيرات من التورط في الحرب أو من توجيه المزيد من الضربات للقواعد الأميركية في سوريا والعراق، يستطيع المتأمل أن يعرف ماذا تضمّنت تلك الرسالة. فهناك بين واشنطن وطهران الكثير مما يمكن للعاب الولي الفقيه أن يسيل له. ليس أقله الإفراج عن المزيد من الأموال الإيرانية المحتجزة. وليس أقله تخفيف القيود عن استخدام هذه الأموال. وليس أقله تثمين المبادرات السابقة بالإفراج عن المحتجزين في طهران مقابل حفنة مليارات من الدولارات.
وفي النهاية فإن “المحافظة على الثورة في إيران”، أهم لحزب الله من لبنان، وأهم من فلسطين، وأهم من “وحدة الساحات”.الشعار الفارغ يمكن أن يرث شعارا آخر في النهاية. والمخدوعون الذين امتثلوا للخداع مرة يمكنهم أن يمتثلوا للخداع مرة أخرى ومرات. هذا هو حال حماس والجهاد الإسلامي الآن. تحاربان بواقع “يا وحدنا” لا بـ”وحدة الساحات”.إيران تمارس مشاهد استعراضية حيال القضية الفلسطينية، مثلما تمارس ميليشياتها اللطم في عاشوراء. ذلك لأنها “تلطم على الهريسة، لا على الحسين”، كما يقول المثل المعروف في العراق. ليست فلسطين ولا القضية الفلسطينية ولا المظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون هي سبب “الملطمة”. السبب هو أن تتخذ من هذا كله ذريعة وغطاء لارتكاب المظالم والانتهاكات باسم “الثورة الإسلامية”.
وأنت تسمع ما يقوله أمير للدجل مثل حسين أمير عبداللهيان عن جرائم إسرائيل، يجب ألا تنسى ما ارتكبته الميليشيات الإيرانية من جرائم وحشية ضد المدن والبلدات في سوريا، حتى تشرد 12 مليون إنسان.وأنت تسمع أصداء الدجل التي ترددها الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني في العراق، يجب ألا تنسى ما ارتكبته هذه الميليشيات من جرائم قتل واغتصاب وتشريد ضد السُنة، ابتداء من بغداد، مرورا بالفلوجة والرمادي قبل أن تصل إلى آخر أطراف الموصل. وهي مما أدى إلى تهجير نحو 5 ملايين إنسان الكثير منهم ما يزالون يعيشون في مخيمات حتى الآن.أما حزب الله، الذي تنطع لقيادة “المقاومة”، فهو لم يكن موجودا بالأساس عندما نجحت المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة منظمة العمل الشيوعي والحزب الشيوعي والقومي السوري والتقدمي الاشتراكي، من طرد القوات الإسرائيلية من بيروت في العام 1982.
هذا الحزب لم يحتكر مشروع المقاومة، ولم يطرد الأحزاب التي أطلقت المشروع من جنوب لبنان، إلا لكي يُضفي على المقاومة طابعا طائفيا. وإلا لكي يقوم بتجيير الشعار لحساب “الثورة الإسلامية”، وإلا لكي يخوض الصراع مع إسرائيل على أساس طائفي بين يهود وشيعة! وهو صراع لا اعتبارات وطنية أو قومية فيه. وحيث أنه صراع بين طائفتين، فإن تسويته والمهادنات فيه أسهل مليون مرة من تسويته على أساس وطني أو قومي. ومثلما “يتعايش” الشيعة في لبنان مع طوائف أخرى، فإن لعبة تنس مع إسرائيل، على أساس طائفي تؤكد أهلية التعايش مع “اليهود” و”الصهيونية”.
المشروع الطائفي الإيراني هو نفسه مشروع صهيوني. لأنه يستعين بنفس المعايير ويستمد قدرته على البقاء من الوحشية ذاتها. لا تنظر إلى الفلوجة. لا تنظر إلى درعا أو حلب. حاول أن تنسى! لعلك تنسى أن الحصيلة الدموية من المشروع الطائفي الإيراني في المنطقة أكبر بكثير من الحصيلة الدموية للمشروع الصهيوني في فلسطين.ولكن هات من ينظر إلى هذه الحقيقة بين الذين ظلوا يراهنون على “وحدة الساحات”.
الرهان نفسه أعمى، إذ لم ينظر إلى الاختلاف بين طبيعة المشروع الوطني الفلسطيني، وبين المشروع الطائفي الإيراني.مفهوم طبعا أن إيران قدمت مساعدات. ولكن غايتها هي تزويد “الشعار” بالمبررات، وليس تحقيق الهدف من الشعار. المسافةُ شاسعةٌ بين هذا وذاك. ولكن حماس والجهاد الإسلامي آثرتا أن تعميا بصرهما وبصيرتهما عن هذا الواقع. آثرتا أن ترتضيا الخداع. و”أمثلهم طريقة” هو مَنْ قال: “اِمض وراء الكذّاب إلى باب الدار”.وها قد وصلنا مع الكذاب إلى باب الدار. فلم نر من “وحدة الساحات” إلا “يا وحدنا”. ولم نر من “ما بعد بعد حيفا” إلا ما هو أقصر من كريات شمونة.
لو كانت المقاومة ضد الاحتلال تعني ذبحا على مسلخ المشروع الوطني، فإنها أرحم، وأكثر نفعا، وأمضى فاعلية في طريق التحرير، من الذبح على مسلخ المشروع الطائفي الإيراني في المنطقة.ولئن كنا في الرمضاء، فما بال الأعمى بيننا يستجير من الرمضاء بالنار؟أصلا، تجيير فلسطين وقضيتها لصالح أيّ أحد، هو توجه لا بصر ولا بصيرة فيه.خير للفلسطيني أن يموت من أجل نفسه؛ وأن يرفع تابوته على كتفه، من أن يضع التابوت على كتف الدجال والكذّاب.