كاظم لفتة جبر
إن عملية إعادة الفكر اليوناني على وفق إطار العقيدة المسيحيّة لا يخلو من التجديد القائم على الحوار الثقافي بين الحضارات غاية في إيجاد بيئة فكرية وفلسفة توافقية بين اللاهوت والعقل، كما أن الفكر اليوناني هو الفكر القائم على بيئة وثنية كان أقرب إلى الفكر العلمي الفلسفي، على عكس فكر وفلسفة العصور الوسطى التي كانت لاهوتية، لأن غرضها كان التوفيق بين الأرض والسماء.. وهذا ما يمكن معرفته من خلال الفلسفة التي سادت في الشرق الإسلاميّ أو الغرب المسيحيّ. إن المحاولات التي قُدم عليها المسيحيون في استيعاب الفكر اليوناني كانت تقتصر على الفلسفات ذات النزعة المثالية (افلاطون والافلاطونية) التي تكون السند إلى فكر وعقيدة الكنيسة المستخلصة من السماء، كما تراها الكنيسة.. وهذا كان عن طريق القديس أوغسطين، لذلك منعت الكنيسة المسيحية خوفاً على مصالحها المادية من الفلسفات ذات النزعة العقلية (الأرسطية) التي ترى من الواقع هو الحقيقة، وانه يجب التعامل على وفق حقائق محسوسة تجعل من الإنسان هو القائد في إدارة توجه العقلي والفردي.
أما في الجهة المقابلة من المسيحية نجد الفكر في الشرق الإسلامي الذي كان أكثر تحرراً وعقلية في استقبال الفكر اليوناني، وخاصة الارسطي، لذلك كانت الشرق متقدماً على الغرب في التطور العلمي والثقافي والفلسفي، لجعله من العقل والتجربة هو المقياس في التوفيق بين الفلسفة والدين.إن حركة النقل التي قادها السريان في الشرق في القرن الثالث في «الرها ونصبين» وهما مدينتان في بلاد ما بين النهرين لنقل الفلسفة اليونانية إلى اللاتينية، ومن ثم إلى العربية، كان لها الصدى الأكبر في خدمة المسلمين لمعرفة أفكار وثقافة الأمم الأخرى.وفي سياق النقل من الممكن أن يكون السريان قد حاولوا من خلال ترجماتهم للفلسفة اليونانية التوفيق بينها وبين المسيحية، لذلك وصلت الفلسفة اليونانية، وخاصة فلسفة أرسطوا إلى العرب بصبغة لاهوتية مسيحية، لذلك لم تكن عصية الفهم على العقل الإسلامي وبها وجد المسلمون مبتغاهم العقلي في الفلسفة الأرسطية عبر ترجمات مسيحية، لذلك قد يكون أرسطوا الذي عرفة المسلمين بأنه مؤمناً بالأفكار المسيحية، سهل عليهم التوفيق والتأقلم مع الفكر الأرسطي. إلا أنّ ذلك لا يعني أن الأفكار الأرسطية بقت مفعمة بالمسيحية، بل أخضع إلى العقل والقرآن الإسلامي لفهمه على وفق منطق العقل الإسلامي والثقافة العربية والروحية الشرقية، لذا ظهر أرسطوا مع الفلسفة الإسلامية أكثر تطوراً وصلابة وتعددية في أفكاره.
أيضا فأن حكاية الفكر لا تكتمل إلا بعد التواصل بين حلقاتها ومحاولة استثمار الميزات فيما بينها، من هنا أقدم المسيحيون في القرن الثاني عشر على ترجمة الفكر اليوناني والإسلامي مستبعدين الفكر الأرسطي الميتافيزيقي، ولكنهم سمحوا للطبيعيات من أجل دراستها في الجامعات الاوروبية لغرض التطور العلمي، لا لأنهم لم يوفقوا في ذلك، لأن الفلسفة الارسطية قائمة على استثمار الطبيعيات من أجل فهم الغيبيات (ما بعد الطبيعة)، أي بمعنى أن أرسطية القرن الثاني عشر كانت غير مكتملة المعالم الثقافية. حتى جاء القرن الثالث عشر، الذي كان عصراً ذهبياً للعقل المسيحي من خلال القديس توما الاكويني (1225_1274) عندما قرر اعادة الترجمات للفكر اليوناني والمسيحي طالباً المساعدة من صديقة المترجم جيوم دي موربيكي لترجمة أرسطوا ومؤلفات الفلاسفة المسلمين، لغرض فهم الأفكار الارسطية فهماً يقربهُ من العقيدة المسيحية، وأن الاكويني قد وجد مبتغاه الفكري من خلال الفلسفة الاسلامية وفلاسفتها (الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد) لما فيها من فهم للفكر الارسطي وتوافق بين الأرض والسماء بعدما قاموا بتهذيب الارسطية بالعقل الاسلامي الشرقي.