من الطبيعي ألاّ تتذكر أجيال من العراقيين صدام حسين. لا لأنها ولدت في العشرين سنة الماضية وحسب، بل وأيضا لأن زمن العراقيين ليس كأزمان الشعوب الأخرى، فهو يحمل معه الكثير من الكوارث غير المتوقعة في السياق التاريخي. تلك الكوارث يضفي عليها العراقيون طابعا تراكميا بما يجعلها قابلة للتوسع والتراكم والزيادة والامتداد.
إن حدثت مشكلة فهم لا يواجهونها بل يتعاملون مع تجلياتها المختلفة وفروعها المتشعبة، وهو ما يعني أن همهم يغدو هموما. أليس طبيعيا والحالة هذه ألاّ تفكر أجيال بصدام حسين؟ غير أن هناك مَن يفرض على العراقيين التفكير بالعائلة المالكة التي قُتلت عام 1958 أي قبل 65 سنة ولسان حاله يقول “أنتم قتلتم تلك العائلة البريئة”، وهمسا يقول “كما قتلتم من قبل الحسين بن علي”. ومن خارج العراق يأتي الصوت الذي يتهم العراقيين بأنهم قتلوا صدام حسين وهو آخر رئيس للدولة العراقية التي قد لا ترى النور مرة أخرى.ليس العراقيون أشرارا كلهم ولكنهم شعب أُبتلي بالعنف. هم مثل باقي الشعوب العربية لا يحبون القوانين إلا إذا تم إعفاؤهم من عقوباتها. يطلبون قوانين تكون على مقياس مزاجهم المتطرف. لذلك فإنهم لا يحبون الدولة.
نخب قليلة منهم عرفت كيف تهذّب نفسها وتربّيها تربية حضارية وتخفف من تأثير العصف العاطفي الذي يعتريها. تلك النخب استطاعت في لحظة فارقة من التاريخ أن تبني دولة المؤسسات وهي دولة القانون التي كانت دائما في حاجة إلى القوة التي لا تخلو ممارساتها من العنف وهو ما أدى إلى أن يهدأ العراقيون بعد تذابح حزبي استمر عقدا من الزمن، سقط فيه الآلاف من القتلى بطريقة عبثية لا مبرر لها.بالمقارنة مع زمنيهم الملكي والجمهوري يُعتبر عقد السبعينات من القرن الماضي هو الأفضل في عمر العراقيين. وضعت الدولة يومها لأول مرة مؤسساتها الثرية في خدمة الشعب. شهد قطاعا التعليم والصحة تطورا لافتا كما أن البنية التحتية لم يكن ينقصها شيء. كان من الممكن أن يغادر العراق مكانه في العالم الثالث لولا أن العراقيين تذكروا شغفهم بالعنف فكان صدام حسين بمثابة بشارة لذلك العنف الذي لم ينته حتى هذه اللحظة وقد يستمر عقودا.
لا أحاول هنا أن أستحضر صدام حسين الذي لم يُسمح له في محاكمته أن يقول كلمة مفيدة ولا أحاول أن أدين الشعب العراقي الذي كان في لحظة انقضاض صدام حسين على حزب البعث وقتله لنصف قيادة ذلك الحزب، وهو النصف الذي عارض استلامه للمنصب الأول في الدولة قد وقف معه ورقص له فكان رئيسا منتخبا بالإجماع الشعبي.كانت شعبية صدام حسين في الذروة يوم أعلن حربه على إيران وكان ذلك هو يوم نحس في تاريخ العراق. ولكنّني هنا أحاول أن أفكك ما صار غامضا على أجيال من العراقيين تعرضت للتضليل بسبب الإعلام الموجه الذي يرغب في تشويه صورة العراق والعراقيين وإضفاء طابع سوداوي على كل ما مر بالعراق قبل الاحتلال، بالرغم من أن الشيوعيين العراقيين، وهم من أكثر القوى السياسية رغبة في إخفاء الحقائق عن الأجيال الجديدة، كانوا حاضرين في كل المذابح التي شهدها العراق الجمهوري، قتلة وقتلى على حد سواء.
ما يهمني هنا أن صورة العراق الحديث لن تكون واضحة عبر السنوات القادمة ولن تتحقق دولة العراق من وجودها في ظل الهيمنة الإيرانية التي تحرسها الميليشيات التي لا يعرف أفرادها شيئا عن الوطنية العراقية، فهم لم يتربوا على معانيها بعد أن أُلغيت مادة “التربية الوطنية” من المناهج الدراسية.لقد استلمت الميليشيات العراقيين لتزيدهم جهلا بوطنهم من غير أن يعرفوا أنهم قد فقدوا المواطنة وهي أعز ما يملكه الإنسان في العصر الحديث. صاروا أبناء الطائفة التي تم احتكار تمثيلها من قبل جماعة مسلحة تابعة لإيران، وهو ما يعني أنهم قد مُسخوا وطنيا ولم يعودوا عراقيين إلا بالاسم الذي يشير إلى هويتهم القلقة.هناك اليوم أجيال من العراقيين تحب وتكره، لا لأنها تعرف لماذا تحب وتكره، ولكن لأنها تجهل كل ما يتعلق بالماضي القريب لوطنها الذي صار مثل حبل غسيل تعلق عليه صور أبطال مزورين قد لا يكونون مسؤولين عما انتهوا إليه حين استولت عليهم الدعاية الحزبية الرخيصة.