وارد بدر السالم
ليست الأرض كتاباً حتى يؤرشَف. وما تمخض عن الحفريات من آثارٍ ولُقى وألواحٍ طينيَّة قديمة في بلاد الرافدين، هو أثرٌ حقيقيٌّ لا غبارَ عليه. لكنَّه متناثرٌ تحت الأرض. ومنذ أنْ بدأت الحفريات في أمكنة متعددة من الحضارات القديمة، بقيت مجهوليَّة الأحداث متوقعة، فمع كل اكتشافٍ جديدٍ تحت الأرض تتغير معادلات التنظير والاستجابات فوق الأرض، لتنحو منحىً آخر في ضبط الوقائع القديمة وإعادة ترتيبها على ضوء المكتشفات الأثريَّة.الملكة السومريَّة شبعاد ظلت مثار جدلٍ بين الآثاريين والمؤرخين. فهل هي ملكة حكمت وادي الرافدين في أور. أم هي كاهنة مقدسة. أم المرأة من طبقة عليا في المجتمع السومري؟ ومثل هذه الأسئلة واردة في تتبع سيرة شبعاد الغامضة كثيراً؛ شأنها شأن الملكة كو بابا؛ وعادة ما تكون الاكتشافات باطنيَّة، فلقد ترك العالم القديم أسراره تحت الأرض لآلاف السنوات، مثل كل الحضارات غير الورقيَّة، وما دام التعويل على مصادر الأرض من دون غيرها، فإنَّ قبر شبعاد يكشف الكثير من أسرارها. ولعله شكّل نواة لمعرفة وجود الملكة شبعاد وأهميتها في الزمن السومري القديم، إذ إنَّ الحياة التي عاشتها تلك الملكة في أور لا توجد فيها موحيات على أنها ملكة، لهذا فهي أكثر نساء سومر إيهاماً وغموضاً، حتى توصيفها بأنَّها زوجة الملك أباركي ملك أور هو محل اجتهاد تاريخي لوجود قبرها الى جانب قبره.
المجتمع السومري مجتمعٌ وراثيٌّ ذكوريٌّ على الأرجح، وليس من السهل أنْ تحكمه امرأة، لكنَّ شبعاد قد تكون زوجة أو بنت ملك، وتلقائياً فإنَّها ملكة بالتسلسل الوراثي، وهذا ما يفترضه الآثاريون. وهذا أيضاً محل جدلٍ تاريخي حتى تلفظ الأرض ما في جوفها من ألواحٍ طينيَّة تحتوي على وثائق جديدة. عندها ستتغير النظريات بالكامل، ويبدأ التاريخيون بتحليل ما استجدّ من سيرة مكملة للسيرة الأولى، أو تناقضها كلياً، أو تضيف إليها.مثلاً هناك من النظريات تشير الى أنَّ شبعاد؛ أربعينيَّة العمر؛ هي ابنة جلجامش ملك الوركاء. وهذه فرضيَّة لم يتم تأكيدها بعد. إلا أنها قيلت وذُكرت، لكنَّ الباحثين في الشأن السومري عدّوا هذا الرأي ضعيفاً، حتى من دون أنْ يقدموا أسباباً. ولو تأملنا تواريخ قبل الميلاد لشبعاد (2600 – 2500) وجلجامش (2800 و2500) قد نجد أنَّ المسافة الزمنيَّة ممكنة نسبياً بين الاثنين وربما تكشف لنا الآثار اللاحقة صلة أبويَّة بين جلجامش ملك الوركاء وابنته المفترضة الملكة شبعاد، ما دامت الأساطير الرافدينيَّة مضخمة وفيها من الخيال الواسع، ككل أساطير الحضارات. قد تحل الكثير من الألغاز عبر الأسطورة العظيمة.
قبر شبعاد وحده متحفٌ سومريٌّ فريدٌ من نوعه. فتحَ مغاليق كانت مجهولة عند الباحثين. فعندما بدأت الحفريات في موقع أور (من العام 1926 الى العام 1932 بقيادة عالم الآثار البريطاني ليونارد وولي) كانت هناك أكثر من مفاجأة. ليس بكثرة ووفرة النفائس والكنوز الذهبيَّة التي وُجدت في قبرها، إنما كان القبر غائراً في الأرض، وبعيداً عن لصوص المقابر، لهذا كان قبرُها كنزَها الذي بقي شاهداً على أهميَّة المرأة ونفوذها الأسطوري بعد أكثر من أربعة آلاف سنة. وصار من الحكمة أنْ تُعدَّ شبعاد ملكة، وليست كاهنة، نظراً لحجم المتروكات في قبرها وهياكل الجنود والخادمات معها.
ويذكر المكتشفون شيئاً من التفصيل عن الغرفة التي وُجد القبر فيها (.. لم يكن له باب، وهو ما يعني أنَّ جسدها وضع هناك قبل تشييد السقف ومن ثم خُتم القبر.. فنجان الذهب قرب رأسها.. كانت تحيط بها ممتلكاتها الشخصيَّة، فقبرها أغنى من أي قبر سومري..) إضافة الى كل هذا وُجدت القيثارة الذهبيَّة وأنواع من القيثارات المرصعة باللازورد. وهذا يشير الى أنَّ الموسيقى كانت منتشرة في تلك الفترة. كوظيفة متوارثة في المعابد. وأنَّ هناك عازفات سومريات ماهرات، ولا يُستبعَد أن تكون شبعاد إحداهنّ. كما وُجدت في قبرها/ الأختام الأسطوانيَّة اللازورديَّة/ غطاء الرأس الذهبي المصنوع من أوراق ذهبيَّة/ خواتم واساور وقلائد ذهبيَّة/ أدوات المائدة من الذهب والعقيق الأحمر/ أحزمة ذهبيَّة/ عربة خشبيَّة مزينة ومرصعة بالفضة/ كميات وفيرة من الفضة والذهب/ أما مشط شبعاد فينتهي بأسنان ذهبيَّة/ والأغرب كان معها في القبر خمسة هياكل عظميَّة لجنود وست وعشرين خادمة، يُعتقد أنهم ماتوا مسمومين لخدمتها في العالم الآخر، وهذا رأي من آراء كثيرة للخبراء التاريخيين الذين تعنيهم دراسة بلاد سومر. فعند وفاتها لوحظت وصيفتان معها واحدة عند رأسها والأخرى عند قدميها وكانت شبعاد التي تضع على ملابسها ثوباً قصيراً (سلاسل من الخرز المصنوع من الذهب والفضة والأحجار الكريمة) وهذه إشارة الى أنَّ شبعاد هي ملكة وليست كاهنة. لكنْ إشارة بعض المنقبين والباحثين الى أنَّ عدم وجود اسم شبعاد ولا اسم زوجها في جدول سلالات الملوك يعني أنَّها (من ضحايا الزواج المقدس) وربما يكون زوجها كاهناً أعلى أو الملك أو (من ينوب عنه) من الذين يقومون (بدور الإله) وفي هذا إشكالٌ تاريخيٌّ ينسف ملوكيتها المفترضة.أما ظاهرة الدفن الجماعي فبرأي العالم مورتكات أنَّ الملك كان يدفن مع حاشيته ومن تمثل الآلهة عشتار- بعد انتهاء مراسيم الزواج المقدس. ورأي صموئيل كريمر خبير اللغة السومريَّة بأنها (عادات نذريَّة تقدم الى آلهة العالم السفلي، تماماً كما فعل جلجامش عندما دفنت زوجته وابنه وجواريه وخدمه وغيرهم الى جانبه).
شبعاد ليست كأيَّة امرأة سومريَّة مرت في التاريخ القديم مروراً عابراً. وشهرتها الكبيرة كشفها الى حد ما قبرها- الكنز الذهبي العظيم. الذي شفّ عن ذائقة نسويَّة رفيعة المستوى، ومَن يتطلع الى كنوزها الكثيرة والوفيرة التي وُجدت في قبرها، سيشهد أن عصرها السومري الفني كان متقدماً، فالمستوى الصناعي لذهبيات وكنوز وأحجار شبعاد الثمينة صاغها محترفون فنيون من عصر السلالة السومريَّة الثانيَّة وعصر فجر السلالات الثالث، مما يوصلنا إلى أن شبعاد كانت ذات نظرة جماليَّة الى موجوداتها الشخصيَّة، فاختيارها لأدوات المائدة من الذهب يوحي بذلك. مثل اختيارها للقلائد ذات الخرزات الذهبيَّة والفضيَّة والحجريَّة الثمينة. وللشرائط الذهبيَّة التي تعقدها حولها. أما أكليل الرأس الذهبي الخالص (والذي لم يُشاهّد من قبل في العهود السومريَّة السابقة) فقد كان ذروة في الجمال والصناعة، ومن دون شك فإنَّه كان يضفي عليها قدسيَّة ملوكيَّة.وأخيراً.. هل شبعاد هي ملكة سومريَّة؟ أم كاهنة عليا؟ أم هي من طبقة السومريين الارستقراطيين؟ أم هي ابنة جلجامش ملك الوركاء؟