ياكم وتصديق الأميركيين، لقد خدعونا بوعودهم المعسولة، ودمّروا زراعتنا، فبعد أن كنا من الدول المصدرة للقمح بتنا نستورده نتيجة النصائح الأميركية! هكذا قالت الوزيرة البلغارية لوزير الصناعة والمعادن العراقي الأسبق الراحل عدنان العاني خلال لقائها به في مقر الوزارة، خلال تسعينات القرن الماضي.إن نصيحة الوزيرة البلغارية، التي جاءت في لحظة صدق مع النفس، وعن تجربة مريرة، تعكس واقع حال من يضع بيضه في سلة الأميركيين من دون تفعيل قدراته الذاتية وترصين جبهته الداخلية.ولعل من المفيد التذكير بـ”بشرى” للعراقيين أطلقها الحاكم المدني حينها، بول بريمر، ذات مؤتمر صحفي، في قصر المؤتمرات، وسط العاصمة بغداد، بقوله إن إدارته وفّرت للعراقيين عشرة آلاف فرصة عمل كعمال نظافة! للدلالة على طبيعة الحلول التي يحملها العم سام للعراق الجديد.إذا ما كان الأميركيون قد أطاحوا بنظام صدام حسين بدافع الحقد والانتقام.. فسرعان ما تبخرت وعودهم بشأن الحياة الأفضل للعراقيين، وبناء نموذج ديمقراطي يحتذى به
وما أن فرغ بريمر من كلامه، حتى انبرى له صحافي يمثل جريدة “الزمان”، بسؤال عن أيهما أجدى للعراق، هل تشغيل العراقيين عمال نظافة، أو تشغيل المصانع المتوقفة، ومنها مجمع البتروكيمياويات في البصرة، الذي لم يكن يحتاج إلّا إلى الغاز ليعمل، ويشغّل نحو أربعة آلاف عامل، فضلاً عن جدواه الاقتصادية الكبيرة.. وهل ذلك أفضل أو إنقاذ مليوني طن من الكبريت المستخرج في الشركة العامة لكبريت المشرق، بمحافظة نينوى، متروكة في العراء، عرضة للسرقة والحرائق وباقي الظروف الطبيعية؟ وهو ما أدى إلى ارتباك بريمر الذي لم يجد جواباً مكتفياً بتسجيل المعلومات في أجندته.
اللهاث وراء الأجنبي وانتظار بركاته وتوجيهاته أدى بالعراق، كما دول أخرى كثيرة، إلى ما هو عليه الآن، فالمعارضة لنظام صدام حسين، قبّلت أيدي الأميركيين، كما بساطيلهم، للقبول بإطاحته، وهنالك اليوم معارضة من نوع آخر، تسعى للشيء ذاته، في شبه إعادة ممجوجة للتاريخ.
وهنا يحق التساؤل عمّا يجري في العراق حاليا بعد 21 سنة على إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وما هذا الانحطاط الاجتماعي عامة والخطاب السياسي خاصة، وكيف طفت طبقة من سقط المتاع وأراذل القوم على السطح، بل وباتت تحتكر نجومية المجتمع، وهل ثمة أمل يرتجى من الطبقة السياسية الحالية، الفاسدة حتى النخاع، لاسيما أنها باتت غير قادرة على إنتاج ساسة أكفاء يؤمنون بأهمية الحكم الرشيد وجدواه، وبولاية الشعب على مصيره، وهل بات على العراقيين تسليم مقدراتهم للأكاذيب نفسها، وهم يخدعون أنفسهم بأن فاقد الشيء قد يعطيه وبأن مَن نبت وجودهم من تربة الفساد والعمالة والاستبداد يمكن أن يكونوا أنبياء تحرر أو دعاة إصلاح؟
اللهاث وراء الأجنبي وانتظار بركاته وتوجيهاته أدى بالعراق إلى ما هو عليه الآن، فالمعارضة لنظام صدام حسين، قبّلت أيدي الأميركيين للقبول بإطاحته
وإذا ما كان الأميركيون قد أطاحوا بنظام صدام حسين بدافع الحقد والانتقام، مستندين في ذلك إلى تلفيقات بان زيفها للقاصي والداني، فسرعان ما تبخرت وعودهم بشأن الحياة الأفضل للعراقيين، وبناء نموذج ديمقراطي يحتذى به، وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة، مع طلوع شمس أول يوم من أيام احتلالهم للعراق، واستنساخ النموذج اللبناني بالتوزيع المفخخ للسلطات، حتى أن تجربتهم في البلد باتت لعنة تلاحقهم.
على صعيد متصل فإن هاجس الطبقة السياسية التي هيمنت على مقدرات العراق بعد 2003، كان وما يزال الحقد والانتقام أيضاً، حيث نجحت بامتياز في إشاعة الجهل والتخلف والمخدرات، وبث الفرقة والتنافر بين فئات المجتمع، وتعطيل عجلة الإنتاج، وإشاعة الفساد والسلاح المنفلت، وتحويل نظام الحكم إلى نوع من الاستبداد الجديد، أبعد ما يكون عن النماذج الديمقراطية، وأفرغت الانتخابات من معناها وجدواها، وحوّلت الحكم إلى شكل مشوّه يعتمد على الابتزاز والثراء غير المشروع. وأكثر من ذلك بات العراق رهينة منهوبة ومسلوبة الإرادة والسيادة تتلاعب بمقدراته دول إقليمية وعالمية، وعامل تهديد لاستقرار المنطقة، الأمر الذي لم ينسف جوهر التغيير من الأساس وحسب، بل وربما ينذر أيضاً بنسف وجوده كبلد موحد.وبعد ذلك كله هل بات قدر العراقيين (منذ سنة 1958 وحتى الآن) كقدر “سيزيف”؟ وإلى متى يبقى العراقي يدحرج آماله وتطلعاته، بحياة حرة كريمة والعيش في بلد تسوده العدالة والمساواة، كسيزيف، الذي يدحرج صخرته صعوداً إلى جبل، حتى تعود للتدحرج نزولاً من جديد، مراراً وتكراراً، ليتقهقر مع كل مرة إلى قاع جديد وسحيق.