هل نأت غزة بأهلنا عنا أم نحن الذين نأوا بأنفسهم بعيدا عنها؟ سؤال يحرج الكثيرين غير أنه أشبه بمحاولة فتح جرح قرر الكثيرون ألاّ يفكرون في مقدار ما ينطوي عليه من ألم. غزة التي كانت دائما بعيدة ومنسية لا لكونها جزءا من قضية أكبر منها. ذلك أمر ثانوي بالمقارنة مع حقيقة سياسية نأت بغزة بعيدا عن فلسطين حين ألحقت بمصر اضطرارا، فـ”غزة المصرية” هو تعبير مجازي يمكن النظر إليه بطريقة تجعل من أضراره أشد فداحة من الواقع الذي فرضه.
أما حين عزلت حركة حماس غزة عن الأراضي التابعة للسلطة الفلسطينية وجعلتها أشبه بالجزيرة التي لا يمكن لأحد أن يهبها عنوانا، فلا هي جزء من كل لكي يتم تعريفها ولا هي الكل الذي يسهل وصفه. ما فكرت فيه حركة حماس لم يكن استجابة لقدر الجغرافيا ولا لضرورات التاريخ. فالوضع الذي انتهت إليه غزة في ظل حكم حماس غير المعترف به أضاع فرصة تعريفها كما عقّد أوضاع الحياة السائدة فيها وأساليبها. من اليسير أن يقال إن غزة ابتليت بما لم يكن من صنع أيادي أهلها. سقطت الحركة مثل نيزك على أرض، لا تملك القدرة على رفض الطارئ والغريب والشاذ بعد أن شبعت قهرا وإذلالا وعزلا وتهميشا. ذلك حقيقي، ولكن الحقيقي أيضا هو ما أحدثته حماس من انقلابات في توجهات الرأي العام حين صعّدت من الشأن الديني على حساب الشأن السياسي. فضاعت القضية أو تم تلفيق قضية بديلة.
عبر ست حروب وهذه السابعة خاضتها حماس ضد إسرائيل صارت غزة هي العنوان الذي تم إدخاله عنوة إلى قاموس النضال الوطني الفلسطيني من غير أن يكون واحدا من مفرداته الأصيلة. وعن طريق ذلك العنوان حوّلت حماس غزة إلى الكارثة الإنسانية التي صار على البشرية أن تهتم بها وسرقت الأضواء من الكارثة الأمّ المتمثلة بحرمان الشعب الفلسطيني كله من حق إقامة دولته المستقلة على أرضه، التي هي أرض فلسطين. وهو ما يعني أن غزة لم تتحول إلى فلسطين مصغرة، بل صارت بديلا عن فلسطين وهي تتصدر المشهد بما مثلته من مأساة لها وقعها المجرد، غير المسبوق وغير المرتبط إلا بوجود حماس على أرضها.
كل الحروب العدوانية الإسرائيلية بكل ما اتصفت به من همجية وتوحش قد تم تفسيرها عالميا في سياق معادلة غير عادلة. وهي المعادلة التي مثلت فيها حماس الطرف الثاني الذي نجح الإسرائيليون في صنع صورته باعتباره خروجا إرهابيا على اتفاقيات السلام التي عُقدت بينهم وبين الفلسطينيين الذين ما زالوا ينتظرون نتائج مفاوضات الحل النهائي. ذلك واقع يخالف الحقيقة ويعتدي عليها ويزوّرها، ذلك لأن المفاوضات بين الطرف الفلسطيني المستضعف والطرف الإسرائيلي المغتر بقوته قد انتهت وأقفلت كل أبوابها ولم تعد إسرائيل راغبة في أن يستمر الفلسطينيون في حرث أرض لن تهبهم سوى الخواء والمزيد من الإحباط.
لقد أسس لعالم فلسطيني لا تكون القضية حاضرة فيه. فكل المآسي التي تعيشها غزة من جراء الحروب الظالمة التي تُشن عليها هي ليست جزءا من القضية، بل هي استثمار إيراني – إسرائيلي مشترك من أجل تغييب القضية.
صمت العرب عن حماس كان هو الخطأ. وهو الخطأً القاتل الذي يدفعون الآن ثمنه حين توجه إليهم الاتهامات بالتخلي عن غزة. في حقيقة الأمر لم يتخل العرب عن غزة حين أبطأوا في الإشهار عن موقفهم من حركة حماس التي لم يبادلوها العداء وقد اختارت أن تستظل بالحماية الإيرانية نكاية بهم. كانت حركة حماس واضحة في عدائها للعرب حين وقفت ضد سوريا وكانت مظلتها. كان واجبا على العرب ألاّ يقفوا محايدين في الصراع الفلسطيني – الفلسطيني فهو صراع يتعلق بقضيتهم المركزية، غير أن الأوضاع السياسية في العالم العربي لم تكن في مستوى اتخاذ المواقف الإيجابية. لذلك لم يقل العرب كلمة وهم يرون غزة تبتعد. فغزة التي كانت جزءا من العمق الفلسطيني لم تعد كذلك.لا تُلام حركة حماس في كل ما انتهت إليه الأوضاع على مستوى علاقة العالم العربي بغزة. سيكون العرب دائما موقع اللوم، ذلك لأنهم تركوا لدولة قطر الغاصة بطموحاتها الغامضة أن تمثلهم. وما فعلته قطر لم يكن إلا تطبيقا للمشروع الإيراني، أن تكون غزة إمارة غريبة عن فلسطين. صار لزاما على فلسطين التي نعرفها أن تغيب لتحل محلها غزة.