صفاء ذياب
إذا كنّا نحن القرّاء، نعاني من مشكلات اجتماعية وعائلية كثيرة جلبتها لنا القراءة، مثل شراء الكتب ونحن صغار وفتيان، والمشكلات الأخرى التي جلبتها لنا الكتب بعد الزواج، ما سبب إرباكاً للعلاقة الزوجية في الكثير من الأحيان، حتَّى أنَّ هذه المشكلات أدّت إلى الانفصال عند بعض القرّاء من زوجاتهم. فالأمر مختلف تماماً لدى القارئات، إن كنَّ عاشقات للقراءة فحسب، أم كانت لديهنَّ ميول للكتابة أيضاً.فالمرأة تعاني من عدّة جهات، ربّما أولها الاستقلالية المادية، فحتَّى إن كانت تعمل ولديها مدخولها الخاص، غير أنَّ هذا المدخول يجب أن يذهب إلى البيت لا إلى شراء الكتب، فضلاً عن ارتباطها الذي قد يكون مع رجل بعيد عن الاهتمام بالكتاب وعوالم القراءة، حينها ستعيش مآسيَ جديدة تضاف إلى وضعها في البيت كامرأة ليس لديها الوقت الكافي للقراءة، في ظل احتياجات الأسرة والزوج لكلِّ لحظة من يومها.فمثلما كان الحديث عن الرجل وعلاقته بالكتاب تفتح لديه حالات جديدة من المشكلات مع زوجته غير المعنية بالقراءة، وهذا ما ناقشناه قبل ثلاثة أعداد في ملحقنا الأسبوعي، حاولنا تسليط الضوء في هذا العدد على المرأة القارئة:
ما الحياة التي تعيشها القارئة؟ وكيف لها أن توازن بين اهتماماتها واحتياجات الأسرة والبيت؟ وما الذي سببته القراءة لها على مدى مراحل عمرها المختلفة؟ وأسئلة أخرى أثارتها قارئاتنا العراقيات قبل أن يكنَّ كاتبات معروفات في أوساطنا الثقافية…
تقدير الشريك
ترى الكاتبة والمترجمة آمال إبراهيم أنَّ القراءة تُعدُّ فعلاً بشرياً راقياً، يتفاعل القارئ من خلاله ليس مع مؤلف المادة المكتوبة فقط؛ وإنَّما مع وسائط القراءة المختلفة ومنها الكتاب. ويبدو أنَّ هذه الممارسة البشرية ترقى لتُصنّف أحد مظاهر علم الإنسان الانثروبولوجي الذي ينبّه إليه العالم ايريك ليفينغستون 1995 في كتابه أنثروبولوجيا القراءة.
إنَّ التباين الواضح في الميول والرغبات البشرية خارجٌ عن سيطرة العقود الاجتماعية الثنائية على اختلاف التسمية في توصيف العلاقات. ولننتقل بعدستنا قليلاً إلى مجتمع أصغر يسهل فيه ملاحقة مشكلة اجتماعية يومية يسهم في خلقها ونموّها العديد من العناصر المجتمعية والفردية. الكتاب ليس دائماً جليساً مُحبّباً، قد يكون الدخيل أو الطارئ الذي لا يهدأ بوجوده حال الدار!
فالقراءة المعّمقة المنظّمة هي تهديد.. تتمحور الفكرة حول الانصياع والطاعة؛ فكلّما كانت خامة الفكر فقيرة وغير مشبّعة؛ سارع سائسها لحشوها بالطاعة والولاء، بالالتزام، والدفاع الأعمى؛ بل حتَّى بالحب والخوف.. كلَّما اتسع الاطلاع والتعلّم ضاقت على الآخر فرصة التطويع.يقول أبراهام ماسلاو في دراسته نظرية الحافز البشري 1943: “للإنسان حاجات نفسية ملحّة، ومنها الرغبة في خلق علاقة ما، تؤمّن له ثقته بنفسه وتساعده على تحقيق ذاته ليتمكن من خلال هذه العلاقة من الشعور بالانتماء وتحقيق الذات وتطويرها”؛ عليه، قد يشعر الشريك من خلال اندماج شريكه بالقراءة أنَّها إشارة لقلّة كفاءته وتهديد لوشيجة الانتماء.
وفي حال أهملت هذه المشاعر قد تتطوّر إلى غيرة وشعور بالإهمال وعدم الأمان؛ لذا تتكرّر مظاهر التشبّث بالأمان والتألّه الشخصي من خلال إتلاف الكتب أو تضييق مساحة القراءة حتَّى انتهائها وشطبها من جدول الحياة الزوجية.وترى إبراهيم أنَّ الحل يكمن من خلال التعمّق بدراسة نظريات السلوك ولاسيّما “التعلّق”، إذ بادر الباحثون إلى استثمار مساحات الاختلاف؛ لتنشيط فاعلية العلاقات البشرية. ويبقى على رأس قائمة الباحثين، الصراحة والحديث المنفتح عن الرغبات المتباينة للأزواج ومن أهم زوايا الحديث المخبوءة هي (الاحترام) هذه القيمة المُهانة. ليس شرطاً أن يتمتّع الشريكان بخلفيّات ثقافية أو تعليمية متقاربة، ولكن من الضروري أن يتمتّعا بقدرة تقدير الشريك واحترام ما يراه مهمّاً لنموه وتحقيق ذاته المنشودة. في النهاية، كلّنا نروي ونُروى من فيض معارف الأسلاف والنظراء..
حالة ترف
وتبيّن الشاعرة غرام الربيعي أنَّ هناك معاناة للقرّاء والكتّاب في اقتناء الكتب وشرائها، وحدوث مشكلات كثيرة مع الزوجات وحتّى باقي أفراد العائلة، فحتّى الآن تعدّ الكتابة والقراءة عند البعض حالة ترف وإسراف وقضاء وقت، وهذا ليس ضرورة قبالة متطلّبات الحياة المتسعة التي كادت تتعقّد بعد الانفتاح الكبير على العالم ومتغيّرات الزمن وتطلّعات الأفراد إلى الحياة بمغرياتها، فضلاً عن الانحسار الاقتصادي عند بعض العوائل، فلا ضرورة لمقتنيات كهذه مع وجود الأهم منها لتغطية احتياجات العائلة حسب قناعاتهم، وهذا ينطبق على الزوجة أيضاً.ومن جانب آخر، تجد الزوجة أو الزوج الانشغال بالقراءة والسياحة معها يبعد الفرد عن عائلته والاهتمام بتفاصيلهم بسبب هذا الانشغال الفكري والحسّي والاجتماعي وعدم مشاركتهم طقوساً اجتماعية. وبعض الزوجات تغار جداً من إيلاء الاهتمام بالقراءة أكثر من الاهتمام بالآخر كما هو الشعور عند بعض الرجال.
وتظن الربيعي أنَّ هناك فكرة مخيفة عند البعض، هي أنَّ القراءة عند السيّدات، التي ستمنحهنَّ الوعي والدراية والثقة وقوّة الشخصية، ممَّا يصعب على الرجل السيطرة على المرأة أو تمرير أساليبه وتصوّراته عليها بسهولة وخشية، صعوبة التعامل مع المرأة الواعية المشبّعة بالقراءات والمعرفة. وأحياناً يتخيّل البعض أنَّ المرأة قد تعشق كاتباً بسبب كتاباته ممَّا يضعف موقع الرجل في قلبها وعقلها.فالمخاوف التي تنتاب الرجل أكثر من المحاوف التي ينتاب المرأة، لأنَّ النساء تحب وتعشق الرجل المثقّف والعارف والعالم والمتعلّم، فتراها تتباهى به، وهذا يحدث نادراً أو قليلاً عند الرجال تجاه نساء تخصّهم. وبعض المشكلات تحدث بسبب مكان خزن الكتب وأهمية الاهتمام بها والحيّز الذي تشغله في الغرفة الواحدة أو البيت والبعثرة، فضلاً عن الخلافات التي سبّبتها ميولهنَّ كقارئات لأنَّ الأزواج لا يتفهّمون وضع الكاتبة والقارئة واهتماماتها التي تشغلها بقوّة، فوجود المرأة يُختصر باهتمامها بالبيت والأسرة ورغبات الرجل.
تطلّعات الهوية
وتشير الدكتورة رائدة العامري إلى أنَّ هذا الموضوع يحيلنا إلى الحوار حول الموازنة بين حب القراءة والكتابة واقتناء الكتب وستراتيجيات الحياة الزوجية الإيجابية من خلال توفير التفاهم المتبادل الذي يدعم الاهتمام بعالم الكتب والأدب الذي هو هويّة الذات الخاصة بعيدة عن التوتّر والصراع.
فالإرادة تصنع المستحيل، والطريق إلى العلم والمعرفة لا يخلو من الصعوبات. و”أنا كوني أمَّاً أولاً وأستاذة جامعية ثانياً، يجب أن أزاول حياتي اليومية بمساواة وتكافؤ وتوازن من دون تفريط/ تقصير في أيِّ طرف، ولاسيّما في حياتي العائلية والعملية، بين العمل وطموحي إلى مزيد من العلم والمعرفة، ممَّا يفتح آفاقاً واسعة للمثقفين وللارتقاء الفكري، ولاسيّما من خلال الحوار المفتوح والدعم المتبادل الذي يسهم في مواجهة التحدّيات في فهم الآخر لتطلّعات الهوية الثقافية، وبناء أسس قويّة للتفاهم في سياق ثقافي وأدبي مهم. وتعزيز التفاهم والتقارب في تقديم الدعم النفسي والعاطفي للآخر، فضلاً عن شغف القراءة والكتابة، الذي يعدّ وسيلة لبناء الذات المتوازنة، لأنَّ القراءة و”الكتابة عمل تحريضي يحرّض الذات على الآخر وفي الآن نفسه تحريض للآخر على الذات” بوصفها الهدف الأسمى لتغير الذات نحو الأفضل كما يقول عبد الله الغذامي في كتابه الكتابة ضد الكتابة.
تفسيرات الرجل الخاطئة
من جانبها، تلفت الشاعرة جنان المظفر إلى أنَّ الرجل الشرقي ينظر للمرأة وكأنّها الطاقة السحرية للعمل البيتي. فالرجل لا يعدّ الأدب في حياة المرأة حقها الطبيعي، بل هو حلقة زائدة تعيق متطلّباته وربَّما تشعره بعجزه وتفوّقها عليه، حتَّى إن كان مثقفاً واعياً، فنزعة الرجل الشرقي وارتباطه بالظروف المجتمعية، والثوابت التي يؤمن بها باعتبار المرأة مخلوقاً قاصراً يحتاجه دائماً.
فالمرأة الكاتبة ملتصقة في محيطها كونها زوجة لا يعطيها الحق في أن تكتب بحضور الرجل أو قبل أن تكمل واجباتها المنزلية تحسّباً لردع المشكلات البيتية، فوقت الكتابة أو قراءة كتاب أعجبها يجب أن لا يتقاطع مع واجباتها المنزلية والزوجية، لذا ليس لديها الوقت الكافي للكتابة والقراءة فكثير من النساء ليس لديهنَّ الوقت الكافي للاستمرارية، فترى الإنتاج الأدبي قليلاً مقارنةً بالرجل.
في حين أنَّ بعضهنَّ كتبنَ بعضهن تحت اسم مستعار لإيجاد مكانة في أوساط ثقافية متحيّزة لا تقبل وجود المرأة الكاتبة، إلَّا بحصرها في إطار أدب معين، هذا من جهة ومن جهة أخرى، يشكّل نوع الكتابة مشكلة ثانية، فأنا كشاعرة لا أستطيع أن أنشر كلَّ ما أكتب، فمثلاً قصيدة الغزل أكتبها ولا أنشرها، لأنَّ المرأة تخضع للسلطة الذكورية، فعليها أن تراعي غيرة الرجل وتفسيراته الخاطئة لكتاباتها. برغم هذه الظروف التي تحيط بها كلّها، لكنَّها أثبتتْ أخيراً أنَّها تستطيع أن تكتب وتقرأ في وقت راحتها. قليلاً من النوم كثيراً من القراءة، متحدية واقعها المفروض والمحتم عليها، فالثورة الأدبية للمرأة ما زالت مقيّدة بسلاسل الرجل والبيئة. ونستثني من ذلك البعض، ولكنهنَّ الندرة في مجتمعنا.
بيئة القارئة
وتدعو القاصة إيناس البدران إلى أهمية حسن اختيار الشريك والتكافؤ الثقافي بما يضمن نجاح العلاقة والعيش حياة مستقرة ناجحة مرضية للطرفين ولطموحاتهما. فالعلاقة الزوجية تتأثّر بشكل جلي بمجريات الأمور على أرض الواقع وبالتعامل اليومي، ناهيك عن التحدّيات والظروف الاقتصادية والحياتية المعروفة.
يقول العلامة علي الوردي :”أعرف ثقافة الرجل من ردّة فعله على الرأي الآخر المختلف” بمعنى أنَّ الرجل كلَّما نضجت تجربته الحياتية وتعمّقت نظرته ورؤيته للأمور كان أكثر تفهّماً لطبيعة عمل واهتمامات شريكته في الحياة، بل أكثر تعاوناً وتشجيعاً لها، ودعماً لمسيرتها الثقافية أو العلمية أو الأدبية.
ويؤكّد باشلار على أهمية البيئة التي تحيط بالكاتب أو الكاتبة، وانعكاس ذلك على رؤيته وعطائه الذي ينمو ويزهر بلا شك في ظلِّ علاقة ناضجة قائمة على التفهّم والاحترام والتشجيع، الأمر الذي “حرصتُ على توفره منذ البداية في علاقتي بشريك حياتي كي لا يتحوّل أحدنا إلى معول هدم للآخر.. ولكن هذا لا ينفي كون الرجل الشرقي دكتاتوراً من نوع ما في بيته، فهو يستمع للطرف الآخر- الزوجة- لكنَّ رأيه هو الذي يتبع في النهاية، وأنَّ طقوس طعامه تظل جاهزة وساخنة في الأحوال كلّها، كما أنَّ تثبيت زرار قميصه المقطوع أهم لديه من حفل لتكريم زوجته”.
استقلالية مادية
وتؤكّد الشاعرة ابتهال المسعودي أنَّ للقراءة طقوساً، أهمها أن تكون مدعوماً مادياً ومعنوياً، وقد يكون الدعم أبوياً تارة وبوجود الشريك تارةً أخرى. و”حقيقة أدين بمحبّتي للقراءة لوالدي رحمه الله ولأخوالي، إلَّا أنَّ المنغّصات تأتي من جانب آخر هو أن تكوني أنثى وعليك واجبات بيتية ومدرسية وعائلية فللأمهات رأي آخر، لاسيّما إذا كان الدرس هو الأهم. ومع هذا كنت قارئة جيدة أستعير الكتب من مكتبة المدرسة ومكتبة والدي” .وتضيف: برغم أن حياتي الزوجية كانت قصيرة، لكن لم يمنعني يوماً من اقتناء كتاب لأنّني كنت موظفة ولدي استقلالية مادية ورأي محترم.مع هذا هناك الكثير من الدعم للقرّاء ذكوراً وإناثاً ومعاناة أسمعها من الكثيرين، ولكن يبقى الهاجس في أن تكون واعياً وتتغيّر أفكارك بعيداً عن العرف والتقاليد وأن تكون كاتباً أو مثقّفاً ومستقلاً، هنا تكمن المعاناة بين أيِّ اثنين لهما قرار أن يكونا معاً بعيداً عن العاطفة، فالتربية هي ما تمنح الأولاد ثقافة القراءة والاستقلالية الفكرية، وهكذا إنا أربّي ثلاثة أولاد لهم حرية فكرية تامة ومكتبة عامرة بكل ما هو تنويري، وأتمنّى أن أكون أمّاً استطعت أن أعطي وجهة نظر مغايرة لوالدتي في القراءة والكتاب.