تواردت الأنباء في الآونة الأخيرة عن توغل الجيش التركي 50 كيلومترا داخل الحدود العراقية. وهناك أخبار تفيد بأن الجيش التركي قام بنصب ست نقاط تفتيش في إقليم كردستان.إن التوغل التركي في الأراضي العراقية يعد تدخلا سافرا وخطيرا رغم أنه ليس الأول من نوعه. وهو مثال بارز على الصراعات الجيوسياسية في المنطقة. ويمكن أن يُعزى هذا التدخل، المدفوع بمجموعة من العوامل، بشكل كبير إلى النفوذ المتزايد لإيران في العراق.إن فهم الديناميكيات بين القوى الإقليمية يقدم نظرة ثاقبة للصراعات الجارية في المنطقة. وغالبًا ما تشهد الجغرافيا السياسية في العراق دولًا تتنافس على النفوذ عبر وسائل مختلفة.وإذا عدنا إلى السياق التاريخي نجد أن لدى كل من تركيا وإيران أطماعا في الأراضي العراقية، بدءًا من الصراعات العثمانية الصفوية وصولا إلى الصراع الإقليمي على النفوذ في العصر الحديث.
وفي الوقت الذي تعلن فيه الحكومة العراقية النأي عن النفس في أي صراع إقليمي نجد أن الكثير من الفصائل المسلحة التابعة للأحزاب الحاكمة في العراق تشارك في الصراعات الناشبة في المنطقة.وعلى مدى العقدين الماضيين أصبح العراق الساحة الأكثر وضوحا للتدخلات الإيرانية والتركية إضافة إلى دول أخرى. وكل ذلك كان نتاجا للغزو الأميركي للعراق عام 2003 الذي ترك آثاره الكبيرة على سيادة العراق، خصوصا بعد تحول الأمور بشكل كبير لصالح إيران مع مرور الوقت. وبالتدريج بلغ نفوذ إيران ذروته مع اكتساب الأحزاب المدعومة من طهران وجودا راسخا في العراق. ويعتقد البعض أن الولايات المتحدة بعد إطاحتها بنظام حزب البعث “سلمت العراق لإيران على طبق من ذهب”.
وقد اكتسبت الميليشيات المدعومة من إيران قوة اقتصادية وسيطرة كبيرة على الدولة العراقية. كما رسخت إيران نفسها من خلال التجارة ومشاريع البنية التحتية وصفقات الطاقة، التي عززت نفوذها.وفي المقابل زاد ذلك من المخاوف والأهداف التركية، وخصوصا تواجد حزب العمال الكردستاني المعارض في شمال العراق، والذي يكتسب دعما إيرانيا واضحا.ومع تزايد نفوذ إيران في العراق تخشى تركيا من تهميشها في الجغرافيا السياسية الإقليمية. وتجد في الحفاظ على موطئ قدم لها في العراق أمرا ضروريا، إضافة إلى أطماعها القديمة.
ويوجد أكثر من مليون مجند عراقي بين جندي وشرطي وحشد شعبي لا يستطيعون الذود عن سيادة العراق. كما أن الفساد المستشري تسبب في صراعات على تقاسم السلطة بين الفرقاء السياسيين، وهو ما قوض سلطة الدولة وسيادتها؛ حيث أن سلطة الحكومة غير نابعة من تفويض الشعب، بل من خلال مافيات سياسية ومكاتب اقتصادية تحميها ميليشيات حزبية تبيع وتشتري المناصب والمراكز الحكومية بما فيها العسكرية، وتستقوي بجهات خارجية!
إن ضمان السيادة الوطنية أمر بالغ الأهمية للاستقرار السياسي وهوية أي دولة. وبالنسبة إلى العراق أصبح مفهوم السيادة هلاميّا غير واضح لتشابك المصالح الشخصية مع العلاقات الخارجية، ما عرض أمن البلد واستقلاله للخطر الداهم.وقد كان السبب في ذلك الوجود السياسي والعسكري الإيراني الكبير في العراق، والذي تجسد في دعمها لمختلف الميليشيات الحزبية لتنفيذ أجنداتها السياسية في المنطقة، فأصبح عاملاً رئيسياً في تآكل سيادة العراق، كما جعل منه ساحة معركة بالوكالة.
إن نضال العراق من أجل السيادة يشكل تفاعلاً معقداً بين التدخلات الأجنبية والمنافسات الداخلية والتبعات الاقتصادية. وستتطلب استعادة السيادة الكاملة معالجة هذه التحديات متعددة الأوجه من خلال التغيير الشامل لنظام الحكم، المبني على المحاصصة والفساد والعمالة للأجنبي.ومع وجود نظام جديد ملتزم بالوحدة الوطنية والاستقلال الناجز، يمكن للعراق أن يحقق إمكاناته الكاملة كدولة مستقلة قادرة على حماية أراضيها ومستقبل أبنائها.