كان تعيين الأمير محمد بن سلمان وليا للعهد انتقالة كبيرة في تاريخ الحكم بالمملكة العربية السعودية. ولقد أثبتت الوقائع أن تلك الخطوة كانت في محلها. من خلالها جددت المملكة شبابها وصارت تراهن على مستقبل يعد بدولة حديثة من طراز متقدم. ربما فوجئ الكثيرون بالحيوية التي بثها الأمير الشاب في روح المملكة وقد لا يتخيلون ما الذي حدث هناك. غير أن مَن تتح له فرصة زيارة الرياض كما حدث معي لا بد أن يدرك معنى أن يحتل شباب متنور موقع الصدارة في قيادة شعوبهم.
مقارنة بما جرى في المملكة أذكر هنا أن جميع الانقلابيين العرب كانوا شبابا حين اعتلوا المراكز الأولى في السلطة ببلدانهم. جمال عبدالناصر في مصر لم يكن قد تجاوز 39 من عمره. معمر القذافي في ليبيا كان في السابعة والعشرين من عمره. صدام حسين كان الرجل القوي في العراق وهو في عمر 31 سنة. أما حافظ الأسد في سوريا فقد كان في الأربعين من عمره. كلهم شباب وكانت دولهم منفتحة على العالم وشعوبهم تتوق للخروج من مضيق العالم الثالث وتقف عند منعطف الانتقال إلى العالم الحديث لما تزخر به من طاقات بشرية خلاقة. غير أنهم بدلا من أن يتعاملوا مع ذلك الواقع بروح إيجابية أغلقوا حدود بلادهم وصادروا حريات شعوبهم وحاربوا روح التنوير والحداثة.
وكم خابت آمال السوريين بطبيب العيون الشاب بشار الأسد. ولكن هل حكم المذكورون بروح الشباب كما فعل محمد بن سلمان؟ هنا تكمن المشكلة. مثلما سجنوا أنفسهم في أقفاص خوفا من العالم الخارجي جعلوا من الأوطان سجونا. كانت عيونهم على السلطة. لم يروا غيرها. ولأن السلطة تشيخ بسرعة وهو ما يدفع بالشعوب الحية إلى تقييد البقاء فيها بزمن محدد فلم ينظروا بعيون شبابهم، بل عبروا الزمن إلى خلودهم. وكان ذلك كفيلا بمحو إمكانية أن تجدد دولهم شبابها. لقد شاخت تلك الدول قبل أوانها حين وضعت شبابها على الرف واعتبرتهم مجرد حشود تُستعمل في المسيرات الموالية والتظاهرات المنددة بالعدو الوهمي. ولا ننسى هنا أهمية الضغوط التي مارستها فكرة المؤامرة.
أذكر هنا واقعتين لهما الدلالة نفسها.
في غير مدينة عربية ذهبت إليها سائحا أو لحضور مؤتمر كنت أخرج صباحا متجولا بين أزقتها وأسواقها وحين أتعب أبحث عن مقهى لأجلس فيه. لا أكثر من المقاهي هناك وبالأخص في مركز المدينة. غير أنني بالرغم من كثرة المقاهي لا أجد طاولة فارغة. وحين أنظر إلى زبائن تلك المقاهي أجدهم كلهم في سن الشباب. أمر غريب فعلا. الوقت صباح وهو وقت العمل ومع ذلك فإن المقاهي مليئة بالشباب الذين يُفترض بهم أن يقفوا وراء الآلات في المصانع وينهمكوا في الزراعة في المزارع ويجلسوا وراء مكاتبهم لإدارة شؤون الدولة. البطالة صارت مهنة أما الجلوس في المقهى فهو علاجها. وما من حديث في تلك المقاهي يعلو على حديث الهجرة.
وهنا أنتقل إلى الواقعة الثانية.
لقد فوجئت الشرطية السويدية المكلفة بالتحقيق معي حين قدمت طلب لجوئي هناك قبل أكثر من ربع قرن أنني أيضا قد أكملت الدراسة الجامعية. قالت “هل يكمل كل الشباب في بلادكم الدراسة الجامعية؟” قلت لها “نعم. لأنها مجانية”. وهنا أخبرتني أن مئات الأطباء والمهندسين والصيادلة والمدرسين والموسيقيين والشعراء والمحامين والاقتصاديين العراقيين قد مروا بمكتبها. وهو ما يعني أن الدولة التي أنفقت أموالا طائلة على تعليم شبابها وهبتهم في لحظة زيف سياسي إلى دول صارت تستفيد من خبراتهم ونشاطهم لأنها تعرف أن تضعهم في المكان الصحيح. وليس صحيحا ما يقوله اليمين المتطرف من أن المليون سوري الذين استقبلتهم ألمانيا قد سطوا على أموال دافعي الضرائب. لقد امتلأت المستشفيات الألمانية بالأطباء السوريين. وربما كان عدد الأطباء العراقيين العاملين في بريطانيا فاجعا.
كلهم شباب تعلموا في أوطانهم التي طردتهم منها دولها بأنظمتها الخائفة من التغيير والمنغلقة على شيخوخة حكامها التي لا تتصف بأيّ نوع من الحكمة. صرخة الشاب التونسي لا تزال تسكن ذاكرتي “لقد هرمنا”. أما حين حرق الشاب محمد بوعزيزي نفسه فإن حكايته تتجاوز الشرطية المسكينة التي رمت الخضروات والفواكه التي يبيعها على الأرض بعد أن صادرت عربته. إنها حكاية الشباب العربي الذي يعيش مهمشا. إمّا أن يذهب إلى المقاهي أو يخضع لسلطة رجال الدين.