كان العراقيون قد انتهوا من مسألة الاعتزاز والفخر بعراقيتهم حين وقع الاحتلال الأميركي عام 2003. وبالرغم من ذلك الموقف المتعصب المنفصل عن الواقع فقد كان هناك سؤال ملح يحاصر العراقيين هو “ما الذي جنيناه من عراقيتنا؟“.واقعية ذلك السؤال كانت كفيلة بإنهاء شعور خيالي بالتفوق وهو الشعور الذي نتج عن العزلة. عزلة العراقيين لم تكن وليدة قرار منع السفر الذي بدأ تنفيذه عام 1982 وهو العام الثاني في الحرب مع إيران.
قبل ذلك لم يكن العراقيون ميالين إلى التفاعل مع ما يجري خارج بلادهم من تحولات. كان المجتمع العراقي مغلقا على تقاليده العائلية. ومَن أتيحت له فرصة التأثر بالمجتمعات الحديثة التي تلقى علومه في جامعاتها كان هو الآخر يعيش في أجواء مغلقة.صحيح أن بغداد كانت تتلقف آخر صيحات الأزياء وصحيح أن “أورزدي باك” وهو أول مجمّع تسوق في العالم العربي كان يضع آخر أسطوانات الموسيقى والغناء في متناول زبائنه، صحيح أيضا أن العراق كان قد سبق الجميع في البث التلفزيوني وقبله بالكهرباء، غير أن الصحيح أيضا أن نطاق ذلك لم يتجاوز حدود النخبة إلا في حالات استثنائية.
ولأن العراق أعطى الثقافة العربية مبدعين كبارا في المجال الثقافي فقد تضخمت عقدة التفوق من غير التفكير في أن الزمن بإمكانه أن يخلق معادلات جديدة.كان هناك دائما ورم التفوق الذي لا يجد له صدى في الواقع. فالعراق دولة ثرية بشعب فقير. ليست الشعوب المتفوقة في العالم فقيرة. الثراء هو واحدة من علامات التفوق.أما حين هُزم العراق في حرب تحرير الكويت وفُرض عليه الحصار الدولي فقد فوجئ العراقيون بأن كل أفكارهم عن أنفسهم هي محض أوهام وأنهم لن يتمكنوا من البقاء على قيد الحياة إلا إذا باعوا نفطهم مقابل الغذاء والدواء. الغذاء والدواء فقط ولا شيء آخر.
قبل ذلك كان الملايين من العراقيين قد انتقلوا إلى دول اللجوء. ليس صحيحا أن كرامة اللاجئ مضمونة دائما. تلك كذبة ينبغي وضعها بين قوسين.كل ذلك كان كفيلا بأن يعيد العراقيون النظر في فكرتهم عن تفوقهم. كانوا ضحايا دائما. تلك كذبة أخرى. ما حدث ويحدث في العراق بعد أكثر من عشرين سنة من سقوط النظام الدكتاتوري يؤكد أن العراقيين لم يتعرفوا على الحرية ولم يؤمنوا بها.
أما أن يكون الشعب العراقي مظلوما فهي الحقيقة التي لا نختلف عليها. الشعور بالمظلومية ينقض خرافة التفوق. وصفة “مظلوم” ليست صفة جيدة دائما، بل هي في أغلب الأحيان صفة مذمومة. ذلك لأنها تنطوي على الكثير من الكسل وعدم الاكتراث والسلبية وضعف الإرادة.ولكن هل تعرّف الشعب العراقي على مَن ظلمه؟ مرة يكون صدام حسين هو الظالم ومرة تكون دول الجوار هي الظالمة وقبلها كانت الدول التي تآمرت على العراق. كل ذلك يكشف عن حقيقة أن العراقيين يعفون أنفسهم من المسؤولية في المشاركة في الظلم الذي تعرضوا له وكانوا ضحاياه.
نسمع أن العراقي ميال بطبعه إلى البكاء. ذلك ما تؤكده الأغاني والمناسبات الحزينة التي يتم إحياؤها في توقيتات مضبوطة من كل سنة. ولكن هل من المعقول أن يتحول ذلك الميل إلى عادة يفقد المرء بسببها قدرته على تغيير الواقع بأدوات وأساليب صارت ميسّرة في عصرنا؟لقد قدّم صدام حسين نموذجا للعراقي الذي لا يقبل أن يكون مظلوما ويثأر ممَن ظلمه. ولكنه كان نموذجا انتحاريا. فهو لم يلجأ إلى العقل ولا مرة واحدة. كان عاطفيا بطريقة هوجاء غابت عنها السياسة. كانت تجربة الشعب العراقي معه قاسية. تجاوزت تلك التجربة بعنفها كل صنوف القسوة المبالغ فيها. ولكن هل كان ذلك الدرس مفيدا؟
لا يزال هناك من يتحدث عن أرض الحضارات بالرغم من أن الأميركان كانوا قد دنسوا ببساطيل جنودهم زقورة أور. لقد استعملت الأحزاب المتعاونة مع المحتل الأميركي عقدة التفوق حبلا يخنق به الشعب العراقي نفسه حين أوهمته بما يرغب في تصديقه. لقد حرره الأميركان من ظلم صدام حسين. ولكن العراق الرث الذي أنتجه الأميركان كان دليلا على أن الشعب المتمسك بشعوره بالتفوق كان مستعدا لكي يحوّل بلاده إلى مسرح للدمى.
كل العنف الذي شهده العراق منذ عام 1958 يؤكد أن شعبه كان مسؤولا عن الذهاب به إلى الهاوية. فلا ميليشيات الشيوعيين ولا حرس البعثيين القومي ولا ميليشيات مقتدى الصدر وهادي العامري وقيس الخزعلي هي اختراعات أجنبية. إنها وليدة تفكير وسلوك عراقييْن متأصلين. الشعب الذي يعرف كيف يبكي يعرف أيضا كيف يصنع أسبابا للبكاء.