لم تكن نتائج الانتخابات التشريعية في إقليم كردستان العراق مفاجئة. فوز الحزب الديمقراطي الكردستاني هو قرار شعبي كردي يكمن إلهامه في رغبة الأكراد في أن يكون إقليمهم بعيدا عن التجاذبات الإقليمية. وعلى الرغم من أن دولتي الجوار، إيران وتركيا لم تتعاملا بشكل جاد مع ذلك الاستقلال غير أن الديمقراطي الكردستاني ظل حريصا على إبقاء مسافة واحدة تبعده عنهما على المستوى السياسي. ولقد جرى حصر علاقته بتركيا بالجانب الاقتصادي يوم كانت تركيا تقوم بتصدير النفط المستخرج من آبار الإقليم. وهو ما لم يأخذ به منافسه حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي تمتد علاقته بإيران إلى عقود سابقة، بحيث كانت تلك العلاقة هي القاعدة التي قامت عليها علاقته بتحالف الإطار التنسيقي الحاكم في بغداد.
لم تخف الأحزاب الشيعية الحاكمة في بغداد دعمها القوي للاتحاد الوطني الذي كانت مأساة حلبجة عام 1988 واحدة من أهم تجليات علاقته بإيران. يومها فتح ذلك الحزب الحدود العراقية للجيش الإيراني وكانت الحرب في لحظاتها الأخيرة. غير أن ذلك الدعم لم يثمر إلا تقدما بسيطا لن يضعه على قدم المساواة مع الحزب المنافس. من المؤكد أن ذلك قد شكل عنصر إحباط لحزب طالباني الذي خُيل لقيادته بعد أن تمكنت من تنصيب ممثلها محافظا على كركوك أن الانتخابات ستمكنها من نقل عاصمة الإقليم من أربيل إلى السليمانية. تلك خطوة لطالما سعت إليها الأحزاب مدعومة بإيران. شيء من ذلك لن يتحقق. وهو ما يؤكد أن جمهور المقترعين وقد كانت نسبته عالية كان منتبها للمؤامرة التي كان من شأن نجاحها أن يقضي على استقلال كيانهم السياسي الذي يعتبرونه ثمرة لكفاح استمر عشرات السنين.
تاريخيا لم يكن السنة في حاجة إلى حزب يمثلهم كان يكفيهم أنهم عراقيون. حين احتل الأميركان العراق كان الأكراد أصدقاء فيما كان العرب السنة أعداء بسبب وطنيتهم
ليست تجربة الإقليم الكردي نموذجية. ذلك لأن كثيرا من الأزمات قد تخللتها وبالأخص على المستوى الاقتصادي على الرغم من أن الاستقرار الذي تمتع به الإقليم عبر العشرين سنة الماضية كان عنصرا جاذبا لاستثمارات أجنبية كانت مصدر انتعاش اقتصادي كما يُفترض. أما أن يكون الفساد قد التهم جزءا من موارد ذلك الانتعاش فهو أمر لا يمكن إنكاره في دولة كالعراق صار الفساد فيها هو القاعدة والنزاهة استثناء. كان الصراع بين الحزبين الرئيسيين قد مزج الزعامة العشائرية بتضارب المصالح الاقتصادية في الوقت الذي كانت فيه حكومة بغداد تضيق الخناق على حكومة أربيل بين وقت وآخر في محاولة منها لإلحاقها بركب الولاء لإيران. وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلا سنرى أن الأحزاب الشيعية كانت ترغب في استمالة مسعود بارزاني وهو زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى جانبها لا لشيء إلا من أجل أن يقف معها ضد ممثلي المكون السني. ذلك زمن انتهى. كان استفتاء 2017 على الانفصال صريحا في تعبيره عن رغبة بارزاني في عدم الالتحاق بالركب الإيراني وإن كانت تلك الرغبة معادية للعراق الموحد.
في مواجهة النزعة الانفصالية التي تميز بها حزب بارزاني فإن جنوح حزب طالباني إلى الخضوع لإيران وأتباعها إنما يشكل خطرا على مستقبل العراق الحر وسيادته على أراضيه. في المسافة بين الحزبين اختار الشعب الكردي أن يصوت لصالح الاستقلال والإرادة الحرة. سيقال “لمَ لم ينجح أبناء المكون السني في الحفاظ على استقلال محافظاتهم والنأي بها بعيدا عن الهيمنة الإيرانية كما فعل الأكراد؟” ذلك سؤال لا يحترم الواقع ولا التاريخ. لم يكن السنة تاريخيا في حاجة إلى حزب يمثلهم. كان يكفيهم أنهم عراقيون. حين احتل الأميركان العراق كان الأكراد أصدقاء فيما كان العرب السنة أعداء بسبب وطنيتهم. أما ما تعرض له سكان المدن ذات الغالبية السنية من عمليات إبادة فإنه ترك عشرات الألوف من شباب تلك المدن في السجون. وهو ما يعني أن كل الانتخابات التي شهدتها مدنهم كانت زائفة.
صنع الأكراد استقلالهم السياسي بقوة تاريخهم النضالي. ذلك ما لم يكن “السنة” وهم دعاة الوحدة الوطنية في حاجة إليه. فالعراق الموحد كان بلدهم. ليس لديهم خيار آخر. أما وقد احتلت بلادهم وتم تدمير مقاومتهم فإن ما يجري اليوم لا يمثلهم ولا يمكنهم من خلاله أن يزعموا أنهم ما زالوا موجودين في العملية السياسية التي هي صناعة أميركية تقوم إيران بإدارتها. من الظلم مقارنة المكون السني بالأكراد. ما حظي به الأكراد من رعاية أميركية قابله عنف أميركي كان هدفه إبادة السنة في العراق.