كنت أؤمن في أول شبابي أن الجيش عماد الأمم وحارس سيادتها، وكنا أيامها نحلم بتحرير فلسطين، ولا يتحقق إلا بجيش قوي رصين، وكثيرا ما نردد الآية *وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ* وأتمثل بقول الشاعر:
لا ينفع الحق المجرد أهله إذا لم يكن يحميه جيش ومدفع.
وكبرت وتغيرت نظرتي بعدما قرأت عن تورط الضباط الكبار بالتآمر بعضهم على بعض بعد تعاملهم بالسياسة، بدأت قراءاتي كعراقي باغتيال جعفر العسكري، ومحمود بكر صدقي والعقيد محمد علي جواد، في الثلاثينيات، وبثورة رشيد عالي الكيلاني 1941، وخذلان الجيوش العربية احدها للآخر في حرب فلسطين 1948، وما حصل بين العسكريين من تصفيات في كل من ثورة يوليو 1952 بمصر، والانقلابات العسكرية المتتالية في سوريا، وخلافات قادة ثورة تموز والضباط الأحرار في العراق، والجزائر، ثورات أكل فيها الرفيق رفيقه والصديق صديقه، واقتنعت أن كل ما يدعى بالثورات العسكرية هي انقلابات دافعها نزعات شخصية غذتها أحقاد وأحلام وطموحات ما أنزل الله بها من سلطان، ولو كفانا الله شرها لكانت بلادنا أفضل حالا مما هي عليه اليوم، فكل حكومة تأتي بانقلاب عسكري أسوأ من سابقتها، ورغم إيماني بأهمية إعداد جيوش قوية واحترام هيبتها، لا أنسى أول موقف لي بمقر جمعية الكتاب والمؤلفين العراقيين في ندوة عقدت على هامش مهرجان المربد، كان وقتها أغلب الأقطار العربية يحكمها العسكر، وقرأت أول قصيدة لي أذكر من أبياتها:
نريـد العسكري الشهم أن يرفـع أيـديـه
عن الحكم عن الساسة عما ليس يعنيه
وان يـرجـع للثكنـات يحميهـا وتحميــه
يريـد الشعــب أن يختـار قائـده وواليـه
ومرت أجيال من الضباط المتمردين على القيم العسكرية ممن يسمون أنفسهم زيفا ثوارا، وهم أشرار، اقسموا على حماية الوطن وصد كل اعتداء يأتيه من الخارج، ولكنهم هدموا أوطانهم من الداخل، خانوا رؤساءهم وأولياء أمورهم وغدروا بهم، وكانوا اقرب الناس إليهم، وجروا بلادهم إلى المهالك، وانتهوا بمثل ما ابتدوا به، نهاياتهم المأساوية معروفة ولا أريد ذكر الأسماء تعففا وهي ليست بخافية، فالشعوب أبقى من المتاجرين بدمائها.
وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالم إلا ويبلى بأظلم.
انقلاب العسكر بمصر اليوم ليس أفضل مما فعله سابقوهم بل اشد شرا وأسوأ قيلا، غيرهم أطاح بحكومات غير شرعية حكمت سنين حكما فرديا وثبت فشلها وفسادها، وأما هم انقلبوا على أول حكومة شرعية تسلمت الحكم بالانتخابات النزيهة، في ظروف لم تكن طبيعية جاءت حكومة مرسي بعد ستين عاما من فساد الحكومات وضلالها، وبعد عام ونصف العام من فوضى أبطالها العسكر أنفسهم، ولم تمنح فرصة كافية ليتضح ما قامت به من خدمات وإصلاحات، في ظل وجود دولة فلول عميقة داخل الدولة، ومعارضة غير نزيهة وحدتها الخسارة في الانتخابات، ووجدت من يرعاها من الخارج بتمويل سخي، فاجتمعت مصالحها مع تطلعات العسكر في فرض نفوذهم قوة وسلطة تتدخل فيما لا يعنيها، “فالتم المتعوس على خائب الرجاء” كما يتمثل الناس، ونفذوا خطتهم الدنيئة بليل تحت قعقعة السلاح.
الانقلابيون الجدد ليسوا لبراليين ولا علمانيين، الأحداث برهنت أنهم متآمرون قتلة، أصحاب منافع شخصية وأطماع دنيئة، العلمانيون واللبراليون يفترض أنهم يؤمنون بالديمقراطية وشرعية الصناديق وهؤلاء انقلبوا عليها، اللبراليون العلمانيون يفترض أنهم يلتزمون بسلطة المكتب لا يتآمر المرؤوس على رئيسه أو يتمرد عليه، وهؤلاء تمردوا على رؤسائهم واعتقلوهم وساوموهم، اللبراليون والعلمانيون يفترض أنهم يؤمنون بحرية التعبير هؤلاء لا يؤمنون بها وقد قتلوا المعتصمين وهم يؤدون صلاة الفجر، ولا يعرفون للحرية طعما فقد أغلقوا عشرين قناة فضائية، وصحفا وأقفلوا مقرات الأحزاب، وأعادوا فتح السجون والمعتقلات. فأين دعاة الحرية الذين كانوا يتشدقون بها، أم يحل لهم ما يحرم على غيرهم.
الانقلابيون الجدد في مصر مرتدون لا يرضيهم حكم الشعب وشرع الله، خرجوا على القانون، يريدون العودة إلى الماضي، ليتمتعوا بالامتيازات ويستأثروا بالسلطة والأموال، ولديهم الاستعداد أن يفعلوا أكثر مما فعلوا في سبيل مصالحهم الشخصية، هم مرتبطون بالخارج ينفذون أجندات مرسومة لهم، تدفقت عليهم الأموال من جهات، بخلت بها منذ سنوات على مصر، هؤلاء هم من كان يعطل خدمات الغاز والسولار والبنزين والكهرباء ويحرموا الشعب منها عنوة ليثيروا النقمة على الحكومة المنتخبة ويحطموا اقتصاد البلد، هؤلاء يكرهون العروبة واستغلوا كره الكنيسة للإسلام فحشدوا أنصارها ضد القوى الإسلامية، وقد أغلقوا معبر رفح بين مصر وغزة وشرعوا بردم الأنفاق والانتقام من الفلسطينيين وشنعوا إعلاميا على اللاجئين السوريين، وشنوا على عرب سيناء الحملات العسكرية، *وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ*.